حديث الشوق

أنيسة عبود

يحدث أن أشتاق إليك ..فأنظر إلى النافذة كأني أبحث عنك في الهواء أو بين أريج الوردة المتدلية على الدرابزون، أنسى أن أشرب قهوتي وأذهب في حديث معك،

أعاتبك لأنك لم تتصل ولم ترسل لي قصاصة ورق عليها اسمي أو عليها عبارة واحدة (اشتقت إليك) أو أن ترسل لي ورقة فارغة فأعرف أن العيون تراقبنا وأن الحروف المكتوبة تفشي السر ويكفي أن ألمس ورقة أنت لمستها وتركت بصمة شوق عليها، أنا لست ملحاحة أعرف أن الظروف أقوى من الشوق أحياناً.‏

لكن إذا ما فاض الشوق كيف عليّ أن أرتب المشاعر والذكريات؟‏

أنت لا تعرف كيف أبحث في غرفتك عن قميص من قمصانك لأشمه كما فعل يعقوب.. ولكن كيف للرائحة أن تحضرك من الغياب؟ وكيف لثيابك القدرة على أن تنثر اللحظات الجميلة في أرض روحي كورق شجر في أيلول؟‏

ويحدث أن تضيق روحي.. ويضيق قلبي على مساحات الحنين أتوسل للذاكرة أن تنصفني وأن تخفف عني الركض في حقول التداعيات هنا كرسيك.. وهنا أنت تشرب النسكافيه.. وعلى هذه الوسادة الأرجوانية تضع رأسك المتعب وتقول (أريد أن أرتاح للحظات؟) لكنك تنهض من جديد قلقاً كما المتنبي.. حزيناً كما المتصوفة.. أراقب نظراتك الحائرة وأنت تهمّ بالرحيل.. لكنك تعدل في اللحظة الأخيرة وتقول (أريد قهوة)‏

أرد (وأنا أريد قهوة )‏

كلانا يتكئ على القهوة ليفتح زمناً جديداً ويبحث عن نقطة للتلاقي أو محطة للسفر لا تكون الدموع قهوتها ولا يكون الغياب حديثها لكن هو الغياب هكذا يأتيك فجأة من دون تخطيط ومن دون موعد وعليك أن تجهز حقيبته وأوراقه وتنتظر ساعة انطلاق القهر.. ستعضّ على صوتك كي تمنعه من الانطلاق وأنا سأحبس المدى البعيد بين عيني.. لا أريد أن تركض نظراتي وراءك.. ولا أن يهجم الدمع على سكوني سأدعي أني غارقة في التأمل.. وأن الحياة هكذا تحتمل كل أوجه التأويل والتفسير.. وقد يجوز أن تكون الحياة مباشرة كخطاب سياسي ..هذا أنت وهذا الطريق ستمشيه.. لا احتمال آخر.. سوى احتمال الفراق الذي سيتركني أبحث عن تفاصيلك الصغيرة المتناثرة بين الزمان والمكان.. وعندما يتعب قلبي في استرجاع كل المنثور منها أشهق بحزن وأجلس حيث كنت تجلس وأبكي.‏

أنا لا أبكي ضعفاً ولا أبكي توسلاً لكن البكاء كتابة جديدة لتقبل الواقع المكتوب لأن الحياة لا تسير كما نريد.. هي التي تسير بنا إلى حيث تريد.. مع أننا نحاول شراء تذاكر إلى أهداف نتمناها ونخطط لها، لكن التذاكر تضيع وأحيانا نحن نمزقها ولا ندري الحكمة من ذلك هل الفراق هو وجه أفضل للحضور أم هو حقيقة جديدة نضيفها إلى حقائق الشوق الذي ينهمر فجأة فتحضر الألوان التي تحبها والعطر الذي تفضله والقمصان التي ترتديها.. وتحضر بدايات لا منتهية ونهايات متعددة، وتموج الأيام في مركب لا أعرف إلى أين يسير.‏

أراقبك وأنت تلوح لي.. ترتفع يدك فيمتد مدى لا ينتهي.. وتتسع كلمات لا تنضب.. وتدير رأسك نحوي وأنت تنتظر مني أن أرفع يدي كتوكيد على استسلامي لقرار الغياب الذي فرضته الأيام الهاربة من يدي.. أحاول اللحاق بلفتتك.. وكم سعيت لأن أقول كلمة واحدة ربما تغير الطريق، لكني لم أقدر كنت ملجومة وفاقدة القدرة على الرؤيا أيهما أفضل أن تلوح لي أم ألوح لك؟ لكن الطريق ستسير بيننا ولن تتمهل أكثر أمام بابنا الحديدي الذي أنحني لأغلق مصراعه وأطوي درفته نحو الخارج. أقف وراءه طويلاً أتلمس هذا الجنزير اللعين الذي يكزّ على فضاء ضيق يحصره بين الباب والشرفة أحاول أن أصرخ لكن ما الفائدة من صرخة ستذوب بين أغصان البرتقال.. أتنهد كأني أطفئ جمرة ثم أعود أدراجي لأبحث عنك من جديد.. لا أعرف إن كان ترتيب ثيابك وقمصانك سيعيد لي بعض لفتتك؟ مع ذلك أنهمك بترتيب اللحظات الأخيرة في غرفة غربية تطل على روحي المعذبة وأعلق معطفك على شماعة الأمل.. غداً تعود؟ وربما بعد غد.. وبين الغد والغد يغبرّ الزمن وتبيض علاقة الثياب. ويطلع نهار آخر من وراء النهار بينما قلبي يظل منتظراً وراء الباب.‏

 

اخبار الاتحاد