علّ السؤال الذي يتردد على كلّ شفة ولسان وفي أصقاع مختلفة من الأرض هو إلى أين المصير؟ فهاهي الولايات المتحدة، والتي كانت تعتبر حلماً للمهاجرين والقادمين إليها، تتخبط اليوم في سياسات داخلية وخارجية لا يعلم أحد أين سيكون منتهاها. وهاهي دول الإتحاد الأوربي، والتي شكّلت، ولفترة من الزمن، أنموذجاً للتعاون الإقليمي يوشك عقدها أن ينفرط وتغوص في أزمات داخلية واتحادية وعبر الأطلسي مع الشريك الأكبر ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية. والأسئلة ذاتها تتكرر في بلدان عدة حيث يشهد العالم مرحلة من التاريخ مختلفة تماماً عمّا عاشه الجيل الذي يدير شؤون الكون اليوم. والكلّ يحاول أن يجد تفسيراً لما يجري سواء على مستوى الأوطان أو الإقليم وإن كان ما يجري يختلف في أسبابه وأحداثه وأهدافه من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى.
ولكنّ القاسم المشترك اليوم بين غالبية بلدان العالم هو الشعور بعدم الإستقرار وصعوبة استقراء التوجّهات المستقبلية والأحداث التي سيواجهها الجميع في حقبة غامضة وتتابع للأحداث غير متوقع في معظمه. علّ الشعور بالخوف من المجهول وصعوبة التنبؤ بما سوف يحدث نابعين من كون هذه المرحلة التي يعيشها العالم اليوم تعتبر مرحلة انتقالية في التاريخ الإنساني، وقد يلجأ المؤرخون في المستقبل إلى توصيفها بأنها من أكثر مراحل التاريخ غموضاً وصعوبة. ذلك لأن الكون برمته يبدو بأنه يمرّ في مرحلة انتقالية تهشّمت بها الأشكال القديمة للحكم والحياة ولم تنضج بعد في مكانها أشكال جديدة يطمئن إليها الإنسان. فقد دامت فترة الاتحاد السوفياتي عقوداً عدّة كما أن الحرب الباردة استمرت لمدة أربعة عقود ونيّف، ورغم كل المعاناة التي كان يكثر الحديث عنها في تلك الحقبة، فقد كان العالم مستقراً على توازن معيّن للقوى وعلى تحدّيات مألوفة وعلى خطوات في السياسة غالباً ما تكون مفهومة أو حتى متوقعة. إلا أنّ ما نشهده اليوم وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينات القرن الماضي وبعد أن تآلف العالم لفترة عقدين مع قطب وحيد في العالم، ما نشهده اليوم هو اختلال معادلة القطب الواحد وتنامي قطب أو أقطاب أخرى على الساحة الدولية، والأهم من هذا هو الاضطرابات والتحولات التي يشهدها هذا القطب الوحيد داخل كيانه. وبهذا فإنه من الطبيعي أن يشعر العالم اليوم بحالة من الارتجاج وعدم التوازن نتيجة اختلال في موازين القوى القائمة وعدم تشكّل القوى الصاعدة بعد، أو عدم وصولها مرحلة النضج والاستقرار.
في هذه المرحلة الإنتقالية عمدت القوة الوحيدة في العالم إلى شنّ حروب (أفغانستان، العراق وليبيا) وإلى التدخل في شؤون الدول وإلى تجاوز القانون الدوليّ وإلى دعم المغتصبين للأرض على حساب أصحاب الحقّ والسكان الأصليين واعتمدت في كل ذلك، إلى جانب قوتها العسكرية وأموال النفط الخليجي، على مؤسسات إعلامية ضخمة تسيطر على إعلام العالم وتسبغ الحق باطلاً والباطل حقّاً. ومن هنا فإن فوز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة وموقفه المناهض للشركات الإعلامية الضخمة واستخدامه للإعلام الاجتماعي البديل قد هزّ ركناً من أركان أدوات القطب الواحد والذي كان أساسيّاً في تبرير وتسويق سياساته. كما أنّ الاختلافات الحادة بين ترامب وبين المؤسسات العسكرية والسياسية في الولايات المتحدة أظهرت عدم قدرة هذا القطب على الاستمرار في حملاته العسكرية وتدخلاته في أقاليم مختلفة، كما أنّ خلافاته الواضحة مع دول الاتحاد الأوروبي قد وضعت العلاقة عبر الأطلسي موضع شك وامتحان، الأمر الذي أوحى بضعف داخل الولايات المتحدة وداخل الاتحاد الأوربي وداخل كلّ دولة أوروبية على حدة. ولذلك فإنّ ما نلحظه اليوم في معظم الدول الغربية هو التركيز على الدولة الوطنية وعدم إعارة اهتمام كبير للعلاقات الإقليمية، لا بل، والحديث عن الخروج من الاتحاد الأوروبي ومن الناتو أيضاً. إذا كانت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد أظهرت الحاجة إلى التكتلات والأحلاف (وارسو والناتو) والاتحاد الأوروبي والعلاقات الأوروبية الأميركية فإنّ التوجّه اليوم فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية انهيار القطب الواحد، إنّ التوجه اليوم هو لتعزيز دور الدولة الوطنية، وتحقيق الأمن والرخاء لمواطني هذه الدولة. قد تكون الدراسات الاستراتيجية قد توقعت الوصول إلى هذه الحال، ومن هنا فإن الحروب على الوطن العربي والإقليم قد ركزت على تدمير الدولة الوطنية (العراق-إيران-أفغانستان-ليبيا) ومحاولة تدمير تونس ومصر واليمن وسورية. ولذلك نلاحظ أن حروب الربيع العربي اتصفت بنهج تدميري واضح، تدمير البنى التحتية والجيوش والمؤسسات والتعليم والصحة، كي لا تقوم قائمة لهذه الدول في المستقبل القريب، أو على الأقل كي يقذف بها مئة عام خلف أي دولة وطنية مستقرة تتطوّر في ظل أمن وأمان.
التحدّي اليوم هو في تحصين وترميم وتطوير الدولة الوطنية كي تكون قادرة على لعب دور في مستقبل لم تتضح بعد أركانه الإقليمية والدولية.
Prev Post