د : خلف المفتاح: جريدة البعث
تعرّف الثورة بأنها عملية تغيير جذري في المجتمع تصيب بنيتيه المادية والفكرية، ويقوم بها الشعب بهدف إحداث التغيير النوعي والعميق نحو مجتمع وحياة أفضل في مجالات الحياة كافة. ووفق هذا التعريف، يمكن النظر والحكم على ثورة الثامن من آذار، التي قامت عام 1963، وفجّرتها قواعد الحزب المدنية والعسكرية رداً على جريمة الانفصال الذي انقلب على شرعية دولة الوحدة السورية المصرية التي قامت بإرادة شعبية، حيث استفتي الشعب العربي على هذه في كل من سورية ومصر في شباط عام 1958، ووافق عليها البرلمانان السوري والمصري، لتكون أول وحدة في تاريخ العرب الحديث، ولتشكّل بداية نهوض قومي عربي، بهدف تحقيق حلم الوحدة العربية الشاملة.
لقد كانت ثورة الثامن من آذار ثورة حقيقية لأنها انسجمت مع مبادئها في السعي الصادق والمخلص لتحقيق أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي في الوحدة والحرية والاشتراكية، وهذا ما اشتغلت عليه الثورة فعلاً، فلم يمض على قيامها شهر ونيّف حتى تمّ توقيع إعلان الوحدة بين سورية ومصر والعراق عام 1963، ولكن الردة التشرينيّة في العراق حالت دون تحقيق ذلك، ثم طرحت ثورة البعث شعار لقاء القوى التقدّمية العربية، التي شكّلت جبهة ثورية في مواجهة قوى الرجعية العربية، ولاسيما أنظمة دول الخليج المرتبطة عضوياً بقوى الاستعمار الغربي. وانسجاماً مع فكر الحزب القومي، كان قيام اتحاد الجمهوريات العربية بين سورية ومصر وليبيا عام 1971، أي بعد قيام الحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد بستة أشهر، وبعد ذلك كان مشروع الوحدة بين سورية والأردن وبدأ بخطوات عملية عام 1975، ثمّ تلا ذلك ميثاق العمل القومي بين سورية والعراق عام 1978، والذي أجهضه بعض قادة الحكم في العراق.
أما على صعيد هدف الحرية فقد أعطاه البعث معنى واسعاً وشاملاً انطلاقاً من فلسفته للمسألة ومقاربته لها، سواء في دستوره أو وثيقته الفكرية التي أطلق عليها “بعض المنطلقات النظرية”، لتكون دليلاً نظرياً نضالياً له في إطار قيادته للدولة والمجتمع بعد وصوله للسلطة، حيث قارب البعث مسألة الحرية على أنها التحرّر الكامل من كل أشكال الاستغلال المادي والمعنوي والتخلّف والجهل، التي تعتبر في نظر البعث العوائق الحقيقية لمسألة الحرية، وهذا لم يحل دون انسجام البعث مع دستوره، الذي أعطى لقضية الحرية مكانة متقدّمة في مبادئه الأساسية، حيث اعتبر حرية التعبير والاعتقاد والفن الأساس في الإبداع والتجدّد، وبناء المجتمع الجديد المتحرّر من كل أشكال التخلّف والعبودية والجهل. وربط البعث بين حرية الوطن والمواطن، فلا حرية حقيقية للمواطن دونما حرية وتحرّر للوطن من كل أشكال الاستلاب السياسي والاقتصادي وغيره. وأطلقت ثورة البعث العنان لتأسيس المنظمات الشعبية والنقابات المهنية لتمارس من خلالها الجماهير أوسع مساحة من التعبير والاختيار والمطلبية، فبدأت الانتماءات ما دون الوطنية بالتحلّل والذوبان لتحلّ محلها انتماءات على حامل سياسي ومهني تجعل المجتمع أكثر انسجاماً وتناغماً وتفاعلاً وفق عناوين جديدة.
وتجسيداً وتطبيقاً للمبدأ الثالث للبعث، فقد حظيت قضية الاشتراكية والعدالة الاجتماعية بأهمية خاصة وشكّلت أولوية في التطبيق بعد قيام الثورة، حيث بدأت عملية تحوّل بنيوي وعميق في بنية الدولة والمجتمع السوري، واحتل القطاع العام الدور الأساسي في عملية الإنتاج، وامتلكت الدولة المرافق الأساسية، حيث صدرت قرارات التأميم والإصلاح الزراعي وغيرها من إجراءات اقتصادية وتشريعات جعلت من الدولة القابض على العملية الاقتصادية والمتحكّم بسياساتها وخططها، ووظّفتها بما يصب في صالح ومصلحة الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، ولاسيما العمال والفلاحين وصغار الكسبة والفئات المهمّشة في المجتمع، وهي الفئات التي انحازت لها ثورة البعث، وكانت متصالحة مع نفسها في ذلك، ما وفّر للثورة أكبر رأسمال بشري شكّل الحاضن والداعم لها، وأكسبها الشرعية الشعبية، وشرعية الإنجاز، وهي التي تحوّلت بعد عام 1970 من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية.
لقد غيّرت ثورة آذار الخريطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سورية بشكل جذري، وأصبح العمال والفلاحون نواتها الصلبة، وتشكّلت ملامح مجتمع جديد يحمل الكثير من سمات ثورة البعث وهويته الفكرية والثقافية والعروبية. واستطاعت سورية تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وحظي قطاع التعليم والصحة والخدمات العامة بأولوية في الخطط الخمسية، وكان لذلك انعكاس حقيقي على مستويات المعيشة ومؤشرات التنمية على الرغم من حجم التحديات التي واجهت الثورة، سواء كانت داخلية في إطار بناء مجتمع جديد، أو على صعيد التحديات الخارجية، ولاسيما العدو الصهيوني وقوى الرجعية العربية وأدواتهما في الداخل، وكان للجيش العربي السوري وبنائه العقائدي-وهو من ساهم ضباطه ومنتسبوه في تفجير الثورة وقيادتها- أولوية في رسم ملامح سورية الجديدة، فكان المدافع عن البلاد وثورتها من أعداء الداخل والخارج، وتصدّى للعدو الصهيوني والمؤامرات الإخوانية على الثورة ومحاولات إخمادها أعوام 1964 و1980 و1984، وراهناً في مواجهته التاريخية للقوى الإرهابية المرتبطة بالمشاريع الاستعمارية المعادية للعروبة والإسلام، وإلحاق الهزيمة بها وبمشغليها ومستثمريها.
لقد قدّم البعث وثورته مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، عزّزه بإنجازات حقيقية على كافة المستويات، ما جعله يحوز على ثقة الجماهير الواسعة، ويكتسب حيزاً شعبياً واسعاً بحيث لم يستطع أي حزب سياسي في سورية حتى الآن منافسته في امتلاك قاعدة حزبية أو شعبية بالنظر لإنجازاته ومبادئه وقياداته التاريخية، ولعل امتلاكه لهذه القاعدة الواسعة والوازنة هي التي تجعل بعض مدعي المعارضة وتمثيل الشعب السوري يهربون ويتهرّبون من أي دعوة للرجوع إلى الشعب السوري في إطار أي استحقاق ديمقراطي في مقاربات الحلول السياسية، لمعرفتهم وعلمهم برصيد البعث وقيادته، مجسّدة بسيادة الرئيس بشار الأسد، في ضمير ووعي السوريين.
لقد كانت ثورة الثامن من آذار وما زالت وفيّة لمبادئها، منحازة لجماهيرها، متصالحة مع نفسها، فقوتها واستمرارها وانتصارها رهن بذلك، فثورة البعث- والتي قدّمت نفسها خادمة للجماهير، معبّرة عن طموحاتها وأحلامها، متسلّحة بمبادئها السامية والنبيلة-تملك في كل الأوقات القدرة على التجدد دونما تخل عن المبادئ والثوابت، فهي كما امتلكت خطاب الثورة بمنطلقاتها النظرية امتلكت أيضاً خطاب التصحيح عام 1970، وجدّدت وتجدّدت في خطاب التطوير والتحديث الذي طرحه الرفيق الأمين القطري للحزب السيد الرئيس بشار الأسد عام 2000 ليشكّل نقلة نوعية في مسيرة ومسار البعث وثورته المتجددة.