نشيطٌ، يدفعه هاجسُه المعرفي وهمُّه الثقافي نحو الفعل الميداني أينما كان، لا تأخذه النرجسية فيتعنّت برأيه إنما يقارب أي فكرة يريد اشتغالها باستشارة أصدقائه من أصحاب العقل والنظر. نجح في استنهاض الحركة الثقافية التي احتضنتها الرقة مدينةُ عبد السلام العجيلي والروائية شهلة العجيلي والروائي إبراهيم الخليل والأديبة نجاح إبراهيم والمسرحي ثائر مشوح وغيرهم.. وها هو هنا يحاول جاهداً نقل تلك التجربة إلى العاصمة دمشق المدينة المبدعة أبداً… إليكم هذا الحوار مع حمود الموسى مدير الثقافة في دمشق:
• سمعنا الكثير عن تجربتك السابقة في مديرية الثقافة في الرقة، والآن أنت هنا في دمشق العاصمة التي لها خصوصية تاريخية مختلفة عن أي مدينة أخرى، ماذا يمكن أن تحدثنا عن مشروعك الحالي في مديرية الثقافة بدمشق؟!
•• بداية كل الشكر لـ «تشرين» لاهتمامها بتسليط الضوء على التجارب الثقافية والفكرية الجديدة.. وكما تقول إن لكل بيئة خصوصية ثقافية واجتماعية، ومدينة الرقة لها بعد تاريخي وفكري وسياسي، فقد بقيت أكثر من 13 سنة عاصمة للدولة العربية في زمن هارون الرشيد.. ولها بعد حضاري لا يقل عن أي مدينة في سورية.. العمل الثقافي عمل جماعي لا يستطيع أي شخص أن ينجزه بشكل إفرادي، لذلك كان لدينا هناك مجموعة من الأصدقاء عشّاق الثقافة، أو ما يمكن أن أسمّيهم «مجانين العمل الثقافي»، طبعاً بمعنى جنون الإبداع وهواجسه، وكان همهم الوحيد أن يخلقوا حالة ثقافية فاعلة ومؤثرة.. وخلال السنوات الخمس التي عملت فيها هناك استقبلتْ الرقة أكثر من 700 شخصية من كامل الوطن العربي، إذ كنا نشكل لجان عمل حقيقية.. للشعر لجنة مختصة، وللفنون الشعبية لجنة تنتقي من المحلي والعربي وتتخير الأفضل لبرامجنا الثقافية التي ننوي إظهارها… وأودّ هنا أن أنوّه بأهمية الوعي عند المجتمع الأهلي في الرقة الذي تبنّى فعلياً كل ما كنا نقترحه، وما كان ذلك ليتمّ لولا الثقة التي بنيناها بين الناس والمؤسسة الثقافية الرسمية.. حتى إنهم كانوا يستقبلون أكثر من 100 ضيف من سورية والبلدان العربية مع كامل تكلفة إقامتهم وإطعامهم وتنقلاتهم ومشاركتهم في الحدث/الحركة الثقافية التي تشهدها الرقّة… وفَضْلُ المجتمع الأهلي كان كبيراً جداً في النهوض الثقافي الراقي الذي حدث في تلك السنوات من 2005 حتى 2010… وما فعلناه هناك هو ما شجعنا على الاستمرار في رؤيتنا ووجهة نظرنا حول الحراك الثقافي في البلد.. لكن هنا في دمشق بدأنا بشكل مغاير نسبياً، وهذه تجربة جديدة بصراحة، فـ«ملتقيات دمشق الثقافية» هي خمسة ملتقيات صغيرة (ملتقى الموسيقا، ملتقى السرديات، ملتقى الفكر، ملتقى التشكيل، ملتقى الشعر، والمعرض الفني التشكيلي) ضمن برنامج شامل نعمل عليه مع مجموعة أسماء لها أثرها في الوسط الثقافي مثل: الشاعر صقر عليشي، الشاعر نزار بريك هنيدي، الأستاذ عاطف البطرس، الأستاذ عطية مسوح، الدكتور غسان غنيم، الدكتور راتب سكر، الأستاذ يونس صالح، الناقد والصحفي أحمد بوبس، والأستاذ ملهم الصالح المشرف على الفكرة الجديدة «أماسي» كبرنامج غنائيات نحاول أن نجعله مستمراً… كل هؤلاء إذاً يشكلون اللجنة الاستشارية للعمل, نجتمع ونتبادل الأفكار ونخرج في كل مرة بفكرة لتجديد الملتقيات..
• لكن نلاحظ أن هناك تكراراً في الأسماء المشرفة حيث نجدهم هنا وهناك في كل الفعاليات والندوات والأماسي؟
•• قد يكون هناك تكرار في أسماء المشرفين، لكن أعتقد أن المهم هو التنويع في المواضيع والأفكار المطروحة، وكيفية تقديمنا لها، والشكل الذي نريد أن نظهره للجمهور… وبالمناسبة الأسماء تتكرر حتى في أعظم وأرقى المهرجانات في العالم، لكن المهم هو ألا نكرر أنفسنا في المواضيع التي نتطرق إليها..
• وهل سنشهد أسماء مثقفين من خارج سورية يشاركون في ملتقيات دمشق التي عهدناها فسحةً للحوار والتلاقي مع المفكرين العرب؟
•• نعم، حقيقة إن طموحنا أكبر من إمكاناتنا المتوافرة، لكننا نخطط لاستضافة عدد من الأصدقاء العرب، ومنهم تم الاتفاق معه كالعراقي عبد الحسين شعبان الذي سيكون ضيف الملتقى الفكري في الدورة الرابعة، والشاعر اللبناني الرائع محمد مهدي شمس الدين أيضاً… لكننا نركز في هذه الظروف على المثقف السوري لأنه يستحق، ولأنه يأتي في كثير من الأحيان بما هو أكثر قيمة من بعض المشاركين العرب.
• دعنا نتحدث بصراحة.. بعض المثقفين السوريين، ومنهم ينتمي للمعارضة الفكرية اليسارية، قاطعوا المؤسسة الثقافية الرسمية.. هل تعتقد أنكم قادرون على جذب واستعادة هؤلاء.. وطبعاً منهم ذوو قيمة فكرية عالية ولا يزالون هنا داخل البلد؟!
•• أنت تعرف جيداً أن المعارضة أخذت مناحي متعددة ومتشعبة، ونحن الآن نمر في السنة السابعة من المحنة السورية، ومعروف كيف أن بعض المثقفين ساهموا في تغذية الإرهاب المسلّط على سورية، وبقناعتي التامة أن من لا يستطيع أن يستشرف هذه الحالة بل يترك البلد في وقت الضائقة ويذهب ليجلس في بلاد دمّرت وطنه ليس له مكان..
• عفواً، أستاذ حمود.. ليس كلّهم مثقفين أشراراً بل أنت تعلم أن الكثير منهم لا يزالون هنا ولم يغادروا، ولم يشاركوا في تدمير البلد بالشكل الذي تصفه.. هل بالفعل ستوجهون الدعوة لأمثال هؤلاء؟!
•• ها أنا أقول بكامل المسؤولية.. كل سوري وكل مثقف مهما كان توجّهه الفكري والسياسي وهمُّه الحقيقي حماية البلد، وكيان الدولة السورية، والبناء وليس التخريب أو التجريح أو الإساءة لأحد.. هو مدعوٌّ للمشاركة في هذه الملتقيات. في الدورة الماضية شاركنا الشاعر شوقي بغدادي مثلاً… دمشق كانت ولا تزال ملتقى للأحرار والمعارضين من كل الوطن العربي، وبكل المعاني، والدعوة موجهة للجميع ومنابرنا مفتوحة… ونحن لا نزال في دوراتنا الأولى من هذه الملتقيات وسترى مفاجآت كثيرة قادمة..
• هل وجهتم دعواتكم بالفعل وتواصلتم مع أولئك الأشخاص.. ولماذا لم تستطع في رأيك المؤسسة الرسمية فعل ذلك في وقت سابق من هذه المحنة، أم إن المسألة هي جهد فردي نابع مِنْ عقلية القائم على الفعل الثقافي؟
•• أعتقد أن ما نقوم به حالياً يلقى كل الدعم اللازم من وزارة الثقافة، وهذه هي قراءتي أنا لتوجّهات الدولة السورية في هذه المرحلة.. لكن هناك حالياً بعض القائمين على المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة يتعاملون مع الحالة الثقافية بنفاق شديد، وبأنهم الأوصياء على الحراك الثقافي، وفي رأيي أن النفاق لا يبني أوطاناً..
• ما الذي تقصده بالـ«نفاق الثقافي».. ومن تقصد بـ «بعض أولئك في هذه الفترة فقط»، أم تتحدث عن كامل بنية المؤسسات الثقافية التي تلمّح إليها؟! وهل «تتهمهم» بذلك لأنهم لم يتعاملوا أو يتعاونوا معك مثلاً فيما تفعله الآن، أم ماذا بالضبط..؟!
•• نتابع في المشهد الثقافي عموماً إطلاق مشاريع فضفاضة بقيت في إطار الشعارات والكلام المُجامِل… البلد يبنى بالفعاليات الجيدة وبالإنجاز الحقيقي على الأرض وليس فقط على المنابر والشاشات وفي المؤتمرات… إن كنتُ أحترم بلدي فيجب أن يكون ذلك بإنجاز شيء مهم وليس بالقول والتنظير.
• الغريب هو أنك لم تتحدث كما يتحدث بعض المسؤولين الحكوميين.. أقصد أنك لم تشتكِ من قلة الميزانية وصعوبة الأوضاع والحرب كشمّاعة يلقون عليها تقصيرهم.. هل تملكون الإمكانات المالية لفعل ما تطمح إليه؟!
•• نعم هناك إمكانات لا بأس بها.. ومن يريد أن يعمل يجد طرقاً عديدة لذلك.. نحن الآن بصدد التعاون مع المجتمع الأهلي في دمشق ضمن ميزانيات مديرية الثقافة.. إذ نخطط مع مركز دمشق للأبحاث والترجمة «مداد» ومديره العام هامس زريق، لإقامة عدة ندوات عن كتب تناولت الحرب على سورية بعنوان عريض هو «المحنة السورية في عيون الآخر»، ومن تلك الكتب مثلاً: كتاب «داخل سورية.. قصة الحرب الأهلية السورية وما على العالم أن يتوقع» لمؤلفه ريز إلريخ، ترجمة رامي طوقان صادر عن الدار العربية للعلوم/بيروت، الكتاب الثاني لتيم أندرسون «الحرب القذرة على سورية.. واشنطن وتغيير النظام والمقاومة» ترجمة تاج هاشم، وكتاب «عاصفة على الشرق الأوسط الكبير» لميشيل رامبو ترجمة الدكتورة لبانة مشوّح، وكتاب «التاريخ الصحيح للأزمة السورية» لماريا خودينسكايا غولينشيفا ترجمة عيّاد عيد… والندوة ستكون بتاريخ 15- 16 آذار، وسيكون مترجم كل كتاب حاضراً مع ناقد ومدير للندوة.
• إذاً في رأيك فإن المؤسسة الثقافية الرسمية قادرة على منافسة القطاع الخاص على عكس ما يشاع عادة؟!
•• المؤسسة الرسمية هي الأساس والأهم، وهي من تملك القدرة الأكبر على المنافسة إن كانت جادة وتريد العمل بإخلاص… لكن اليوم نحن بحاجة للعمل المشترك مع التجمعات الأهلية.. الفعل الثقافي في كل بلدان العالم هو حالة أهلية، ووزارة الثقافة داعمة وراعية لكل مشروع جاد قابل للتنفيذ واقعياً.. طبعاً هناك من يقدّم عناوين عريضة وكبيرة لكنها بعيدة عن قابلية التنفيذ الواقعي في هذه الظروف، وأعتقد أن الوزارة اليوم جادّة في العمل مع الناس بعيداً عن المزاجية والحالة الفردية رغم التداخلات الإدارية بين وزارة الثقافة ووزارة الإدارة المحلية بالنسبة لتعيينات مديري المراكز الثقافية مثلاً، وما يحصل هناك من تدخّلات لبعض الجهات التي لا تحمل همّاً ثقافياً وهاجساً حقيقياً لمعافاة البلد وتطويره.. وأنا على ثقة بأننا نستطيع ذلك، لأن سورية ولّادة طاقات شابة واعدة.. ونحن نطمح ضمن مشاريعنا القادمة إلى أن نكرّس ثقافة الحوار والتعدد والاختلاف والنقد الصادق.