عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين:جريدة البعث
لعل المشكلة الكبرى التي يعاني منها العرب والمسلمون، ومنذ وقت طويل، تتمثّل في غياب المؤسسات التي ترصد آفاق الصراع السياسي في العالم واحتمالاته، وما يترتب على ذلك من إسهام في صنع القرار السياسي بمعناه الواسع، بما يمكن من اتخاذ التدابير الدفاعية والاقتصادية والعلمية التي تمكن من مواجهة المخاطر المحتملة.
لا تعني الملاحظة السابقة أننا نفتقر إلى عقول تدرس الواقع وتستشرف آفاق المستقبل، لكن الحقيقة المرّة، التي لا بد لنا من الاعتراف بها، هي أن ما يقوله أصحاب هذه العقول يعامل كما لو كان “أصواتاً صارخة في البريّة”!، والأهم أنه لا يستفاد منها حيث يجب أن يستفاد، بل بالعكس من ذلك، فإن الطاقات والخبرات العلمية عندنا قد توظف في خدمة أعدائنا، سواء شعر هؤلاء بخطورة هذا التوظيف أو لم يشعروا، وأدركوا غايته أو لم يدركوا. وينطبق الأمر ذاته على بعض القوى السياسية التي لا يعنيها من شيء سوى التمكن من الإمساك بالسلطة “ولو على خازوق!”.
في كتابه “التجديد الفكري للتراث الإسلامي وعملية إحياء الوعي القومي”، الصادر في دمشق، عام 1982، يقول أستاذنا عالم السياسة العربي د. حامد ربيع: “قد يتساءل القارئ إزاء ما ذكرناه من أن عمليات الاستشراق كانت مقدمة ثابتة للحركات الاستعمارية والتغلغل الأوروبي. وطالما أن هذه العمليات الاستشراقية قد اختفت، فهل يعني ذلك أننا إزاء مرحلة جديدة في قصة التعامل بين الشرق العربي والغرب الرأسمالي؟ ويجيب قائلاً: “تساؤلٌ مشروعٌ يتضمّن قسطاً من الحقائق، ولكن النتائج التي قد وصل إليها مثل هذا الاستفهام إنما تعبّر عن سذاجة حقيقية. إن الحركات الاستشراقية قد اختفت، وتأكيداً لذلك فقد صفيت جميع الجمعيات الدولية والمؤسسات الأوروبية التي كانت ترعى تلك الحركات. وهذا طبيعي، إذ أن الاستعمار الأوروبي قد ختم صفحة تاريخه. على أننا يجب أن نتذكر من جانب آخر أن الغزو الفكري له وسائله العديدة، والتفضيل لوسيلة على أخرى، أو تشكيل أداة معينة بخصائص متميّزة، إنما يعكس حقيقة مزدوجة: طبيعة الحضارة الغازية من جانب وخصائص الإطار الدولي من جانب آخر. والاستشراق لم يكن سوى نقل لمفاهيم الحضارة الكاثوليكية حيث فكرة التبشير هي المحور الحقيقي للتعامل. والغزو الاستعماري اليوم ينبع من منطلق الدول العملاقة وليس من منطلق الدولة القومية، وهو يعبّر عن عصر مجتمع الجماهير حيث الكم هو المتحكم في تصوّر ومدركات القوى الغازية. ومن ثم فقد تخلت عن مفاهيم الحركات الاستشراقية لتحل محلها فكرة الأبحاث الميدانية التي غمرت المجتمعات العربية، وأضحت هي “موضة العصر”. ولنذكر القارئ بطبيعة هذه الأبحاث الميدانية التي تجريها الجامعات ومراكز البحوث ولحساب أجهزة خفيّة تنتهي عند وكالات المخابرات التي تعمل بتعاون تام مع أجهزة صنع وتنفيذ السياسة الخارجية: استمارة جمع معلومات تعدّها الأجهزة الأجنبية، وتبعث بها إلى العاصمة العربية، حيث علماءٌ محليّون، تغريهم المادة من جانب وبريق الحج الى العواصم الكبرى من جانب آخر، يتولون تنفيذ تلك الأداة لجمع المعلومات التي ترسل إلى تلك الأجهزة الأجنبية، حيث الخبراء يتولون تحليلها واستخلاص نتائجها”.
ويضيف د. ربيع قائلاً: “لعل هذه الحقيقة تطرح عدة تساؤلات:
الأول – مسؤولية الجهات المسؤولة عن الأمن القومي العربي: كيف تسمح تلك الأجهزة بمثل هذه الأبحاث، وبهذه الصفاقة التي جعلت علماء، بل ومديرين لجامعات لها تاريخها، ينخرطون في هذه العملية دون حياء أو خجل؟
الثاني – جدوى هذه الأبحاث: الخبرة التي نعيشها، وبصفة خاصة تلك التي أبرزتها أحداث إيران (أي نجاح الثورة الإسلامية في إيران)، تؤكد أن هذا الأسلوب يملك نقائصه. والواقع أن المجتمع العربي يملك ضميره التاريخي الذي لا يستطيع أيّ بحث ميداني – مهما جمع من معلومات – أن يمسك بتلابيبه، أو يكشف أبعاده، سوى العالم الذي استطاع أن يعايش من الداخل ويتفاعل مع الحقيقة الاجتماعية.
الثالث – رغم ذلك، فإن هذه الأبحاث ذات أهمية خطيرة بصدد تخطيط السياسات الكبرى في تعاملها مع المنطقة العربية. والذي يعنينا أن نؤكد عليه هو أن عمليات التسلل والإغراق والتسميم في ذاتنا القومية لا تزال قائمة على قدم وساق، وإن إحياء التراث القومي هو أحد الأعمدة التي سوف تسمح لتلك الذات بأن تعود، وتقف على قدميها شامخة عنيفة قادرة على أن تقبل التحدّي وترفض الانحناء.
لو قدّر للدكتور ربيع أن يعيش ليرى وقائع “الربيع العربي” لكان بوسعه أن يذكرنا أنه ذكر العرب مبكراً بما يدبّر دون ان ينتبهوا إلى عمق المؤامرة وأبعادها. ولكن هناك في الواقع ما هو أخطر، وهي الترتيبات المضمرة منذ ذلك الزمن البعيد لاستثمار جماعة الإخوان المسلمين بالذات في مؤامرة “الربيع” – وإن لم تكن الجماعة الوحيدة المستثمرة – والدور المحوري الذي أسند لنظام أردوغان في العملية كضرورة لا بد منها في سياق تنفيذ المخطط. ولكن قبل أن نتحدث عن هذه الترتيبات المضمرة، دعونا نتابع معه ما قاله حول انصباب تلك الأبحاث على دراسة الطابع القومي وأهدافها.
يقول د. ربيع في كتابه (مقدمة في العلوم السلوكية)، الصادر في دمشق أيضاً، سنة 1981: إن دراسة الطابع القومي أضحت اليوم أحد المداخل لفهم الظاهرة السياسية، وخاصة في أبعادها الديناميكية. ولذلك، فإن وظيفة الطابع القومي، في بناء الإطار الفكري لتحليل ظاهرة السلطة، متعددة الأبعاد. ويمكن إيجازها بما يلي:
1 – فهم الطابع القومي يسمح بتحديد إمكانيات التعاون الدولي (لنتذكر دور منظمات مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والناتو، وحتى الأمم المتحدة، في مؤامرة “الربيع العربي”).
2 – التنبؤ بردّ الفعل، سواء على المستوى القومي أو على مستوى القيادة السياسية، للقرار السياسي في نطاق العلاقات الدولية (لنتذكر أن جانباً من المخطط تم تمريره من مجلس الأمن الدولي في البداية، قبل أن تلجأ روسيا والصين الى استخدام الفيتو المزدوج بمواجهة الحرب التي استهدفت سورية).
3 – بناء وتخطيط الحركة الدعائية، وخاصة عندما تأخذ صورة الحرب النفسية. وقد أثبتت الدراسات المعاصرة أن دراسة الطابع القومي سمحت للحركة الدعائية بأن ترتفع لتصير أسلوباً من أساليب الاستعمار الحضاري (لنتذكر دور قناتي “الجزيرة” و”العربية”، وما لحق بهما من وسائل إعلامية، في التمهيد لمؤامرة الربيع ومواكبتها، حيث مورست أكبر حرب كونية مبنية على الكذب).
4 – تخطيط التغيّر السياسي: فالنواحي الثلاث السابقة تتعرض للنواحي السياسية في محيط العلاقات الدولية. ولكن دراسة الطابع القومي لها أهميتها أيضاً في النطاق الداخلي، وبصفة خاصة في المجتمعات النامية. ويتضح ذلك بشكل واضح في محيط ظاهرة التغيّر السياسي. والتغيّر السياسي يقصد به الانتقال السريع الذي يكاد يكون مفتعلاً من وضع نظامي معيّن إلى وضع آخر يختلف عن الأول جذرياً بحيث لا يمكن أن يوصف بأنه استمرار له (لنتذكر كيف تمحورت مؤامرة “الربيع” تحت شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”). ودراسة الطابع القومي تسمح بتحديد ذلك الذي لا يمكن تناوله بالتغيير، وذلك الذي من الممكن أن يخضع لعملية التغيير السياسي، وهي لذلك تصير أساساً هاماً للتحليل السياسي فيما يتعلق بإقامة أو بناء الخطة المتعلقة بالتغيير السياسي.
من المؤكد أن من وضعوا خطة مؤامرة “الربيع العربي”، بعد أن أشبعوا الطابع القومي العربي دراسة وتمحيصاً في أدق تفاصيله، كانوا بالإضافة إلى هذه الدراسة، وما يترتب عليها من تحديد لأساليب التعامل، قد تيقنوا من توفير كل مقومات النجاح لمخططهم، وأعدوا لذلك الأدوات المطلوبة. ومع ذلك، فإن الضمير القومي العربي أثبت أصالته رغم أنفهم بصموده في مواجهة خطتهم، ولنلاحظ أن وجه الفشل تمثل في عجزهم عن تحقيق “الانتقال السريع من وضع نظامي معين إلى وضع آخر يختلف عن الأول جذرياً”.
من حقنا الآن، ومن واجبنا أيضاً، أن نتساءل: إذا كان الهدف الذي يسعون إليه هو التغيير السياسي، وإذا كانوا قد فشلوا في تحقيق هذا التغيير بسرعة، فهل يعني ذلك أنهم تخلوا عن هذا الهدف؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، دعونا نحدد أولاً طبيعة النظام الذي يريدون تغييره في سورية، مثلما غيروه في العراق من خلال الغزو السافر، وفي ليبيا من خلال الغزو السافر والمقنع.
إنه دون ريب النظام القومي العربي الذي يرى في العرب أمة واحدة، وفي الوحدة العربية ضرورة قومية، متمثلاً بالتيار القومي العربي ببعديه البعثي والناصري.
إن أخطر ما أسفرت عنه الحرب التي شنت علينا، حتى الآن، يتمثل، عملياً، في محاولة إضعاف الذات القومية، لصالح الرؤى الفكرية التي تشكك أصلاً بوجود الذات القومية العربية. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن عملية الإضعاف هذه لا تقتصر على الدور الذي تلعبه الجماعات التي تحارب العروبة باسم الإسلام، مثل جماعة الإخوان المسلمين وشقيقاتها التكفيريات، والتي حملت السلاح، إذ أن هناك فئات أخرى تلتقي معها في رفض الفكر القومي العربي ومحاولة إضعافه، وإن اختلفت معها في أساليب التعبير عن هذا الرفض. فهذه الجماعات وجدت في انخراط بعض الحكام الأعراب في المؤامرة الكبرى فرصة لممارسة التشويه للذات القومية ومحاولة نفيها أو تفتيتها.
ينبهنا د. حامد ربيع إلى هذه الحقيقة مبكراً، حين يقول بأن الحركة الصهيونية منذ أن ارتبطت بالأداة الاسرائيلية، بدا واضحاً اهتمامهما بمساندة المشروع الصهيوني من خلال عمليات تشويه من جانب وتفتيت للذات الحضارية من جانب آخر.
نفهم من هذا القول أن كل ما يؤدّي إلى “التشويه” و”التفتيت” يخدم المخطط الصهيوني حتماً. وهنا نتساءل: أين يقع دور نظام أردوغان وجماعة الإخوان من عملية التشويه والتفتيت هذه؟ وكيف جرى ترتيب هذا الدور؟ وهل تمت ممارسة هذا الدور من قبلهما بوعي أو دون وعي؟
لنعترف بأن الإجابة على هذه الأسئلة صادمة نوعاً ما، لأنها تثبت أن ما يجري الآن جرى التخطيط له على الأقل منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، ما لم نقل قبل ذلك.
بين يديّ كتاب أمتنع عن ذكر اسم كاتبه أو عنوانه، ولكنه يدور حول “العمل الإسلامي”، وصدرت طبعته الأولى، وليس الأخيرة، في دمشق سنة 1966. وهذا الكتاب يمثل بالفعل وجهة نظر جماعة الإخوان المسلمين أو جناح أساسي منها. وفي هذا الكتاب فكرتان أساسيتان جوهريتان تفسّران، ربما، كل شيء حدث بعد ذلك وما زال يحدث حتى الآن.
الفكرة الأولى تتضمن دعوة صريحة للاقتداء بألمانيا واليابان في سلوكهما بعد الحرب العالمية الثانية. ولن نفهم الدلالة العملية لهذه الدعوة المبكرة إلا حين نتذكر قول د. ربيع بأن السياسة الخارجية الأمريكية، وهي تريد أن تقوم بعملية ترويض للمجتمعين الألماني والياباني، ما كانت تستطيع أن تحقق هذه الغاية إلا ابتداء من الدراسة العلمية المنظمة لظاهرة الطابع القومي فيهما. وهنا نفهم أن ما طبقه الأمريكي على المانيا واليابان لاستيعابهما طبقه على العرب بدراسة الطابع القومي العربي، ولكن المهم في الأمر أن جماعة الإخوان المسلمين بالذات قد اقتنعت مسبقاً، وتبنت، النموذج الأمريكي الذي طبق على ألمانيا واليابان ليطبق على العالم العربي والإسلامي، معتبرة أن ما طبق في ألمانيا واليابان نموذج يحتذى!
أما الفكرة الثانية فتقوم على رفض الجهاد بكل أشكاله – بما في ذلك الجهاد ضد العدو الصهيوني، وهذه الملاحظة نوردها رغم أن المصدر لا يقارب النكبة في فلسطين وواجب الجهاد ضد الاحتلال الصهيوني من قريب أو بعيد – والمبرر هو أن ما يسمّى بـ “المجتمع الإسلامي المتميز”، اي الذي تعترف جماعة الإخوان بولايته ووجوب طاعته، لم يتشكل بعد. وأمر الجهاد يجب أن يصدر عمّن يتولى قيادة هذا المجتمع المتميز متى تم الوصول إليه.
في ضوء هاتين الفكرتين الجوهريتين نستطيع أن نفهم ما يحدث. فوصول أردوغان وحزبه الإخواني “حزب العدالة والتنمية” الى حكم تركيا يعني قيام المجتمع المتميز الذي يعطي للجهاد في كل البلدان الأخرى شرعيته حتى لا يكون ارتجالا وتمرداً، بل إنه لا يجوز التخلف عن تلبية دعوته للجهاد بحال من الأحوال!
تكشف هذه الفكرة دور نظام أردوغان الجوهري في إدارة العنف والإرهاب وما يواكبهما من “تشويه” و”تفتيت” باعتباره مصدر الشرعية السياسية والدينية في نظر جماعة الإخوان المسلمين. ولكن ما هو موقع نظام أردوغان وجماعة الإخوان معاً في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؟
سؤال سنجيب عليه باختصار شديد متكئين، مرة أخرى، على ما أورده أستاذنا د. حامد ربيع في كتابه “الأوضاع الدولية والتطور المعاصر للدور الإقليمي للمنطقة العربية” الصادر أيضاً في دمشق عام 1981.
إنه يبيّن أن السياسة الأمريكية مرت حتى ذلك الحين بمرحلتين:
أولاهما مرحلة التكتل الإقليمي التي أدارها جون فوستر دالاس، والتي قامت على سلسلة أحلاف تحاصر الكتلة الشرقية. والمهم هنا أن الدول التي قامت بدور مزدوج غايته الربط بين هذه الأحلاف هي:
1 – تركيا التي ربطت بين حلفي الأطلنطي والشرق الأوسط.
2 – باكستان التي ربطت بين حلفي الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
3 – اليابان التي ربطت بين حلف جنوب شرق آسيا وحلف المحيط الهادي.
والثانية برزت منذ بداية الستينيات متلصصة (وأنا أثبت هذه الكلمة على هذا النحو الذي وردت به في وصف أميركا عامداً) لتصل إلى قمتها مع نظرية نيكسون، وتقوم على فكرة الدولة المسيطرة الإقليمية لصالح أميركا. وكان الوضع آنذاك كما يلي:
1 – ألمانيا الغربية في وسط أوروبا.
2 – إسرائيل في الشرق الأوسط.
3 – إيران في المحيط الهندي.
4 – اليابان في الشرق الأقصى.
لنلاحظ هنا أن ألمانيا واليابان اللتين اعتبرهما صاحب الرؤية “الإسلامية” أنموذجين يقتدى بهما إسلامياً تحتلان موقعهما في المعادلة الأمريكية، وقد ظلتا تحتلان موقعهما فيها حتى الآن. ولكن ماذا عن إسرائيل وإيران؟
لقد خرجت إيران من المعادلة بانتصار الثورة الإسلامية فيها عام 1979. وأما إسرائيل فقد فشلت في أداء الدور المطلوب منها في المنطقة على خلفية ما حققته في عدوان حزيران عام 1967. وكانت حرب تشرين التحريرية عام 1973 أولاً، ثم حرب غزو لبنان عام 1982 ثانياً، واضطرار القوات الاسرائيلية للانسحاب من بيروت لتحل القوات الأمريكية والفرنسية محلها، قبل أن تضطر بدورها للانسحاب بعد الضربات التي وجهتها لها المقاومة اللبنانية، ثم اضطرارها للانسحاب من جنوب لبنان في أيار عام 2000 تحت ضربات المقاومة، ثم فشل عدوانها على المقاومة في لبنان عام 2006، معطيات أكدت أن إسرائيل عاجزة بمفردها عن النهوض بالعبء الذي ألقاه الأمريكي عليها، فكان لا بد لأميركا من بديل إقليمي.
ترى مَن كان هذا البديل الإقليمي؟
إنه تركيا، ولكن بقيادة حزب “الحرية والعدالة” الممثل لجماعة الإخوان المسلمين. وهذا البديل لا يستمد قوته من قوة تركيا فقط، بل من ارتباطه بحلف الناتو أيضاً، وكذلك بارتباط جماعة الإخوان المسلمين به. فتركيا التي يقودها أردوغان وجماعة الإخوان هي بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين ككل ذلك “المجتمع الإسلامي المتميز” الذي يملك صلاحية إصدار أمر الجهاد، ومن يتخلف عن تنفيذ هذا الأمر يكون في نظر الجماعة قد تخلى عن فرض عظيم من فرائض الإسلام. ولعل محور المشكلة المثارة الآن حول رغبة أردوغان في تثبيت سلطانه وتحويله الى رئاسي، وسلطان حزبه، وتصفية معارضيه، يكمن حصراً في هذا الدور، وفي حاجة الاستراتيجية الأمريكية لتثبيت هذا الدور وضمان استمراريته. وما هو مطلوب الآن، مثلما كان مطلوباً في الماضي، هو أن تقوم سلطة أردوغان وجماعة الإخوان بالدور المطلوب منهما إقليمياً لصالح الاستراتيجية الأمريكية من جهة، والاستراتيجية الصهيونية في “التشويه” و”التفتيت” من جهة ثانية. وهذا هو بالفعل ما يحدث.
هل يعني هذا أن الأمريكي والصهيوني تخليا عن الهدف المتمثل بتمكين إسرائيل من السيطرة على المنطقة؟
يقيناً لا. كل ما في الأمر أنه مطلوب من نظام أردوغان وجماعة الإخوان، وما يمكن توظيفه إلى جانبهما من العصابات الإرهابية، وقوى أخرى غيرها، أن ينجز مهمة التشويه والتفتيت، وأن يعبد الطريق أمام التوسع الصهيوني لاحقاً سواء كان هناك من أدرك هذه المسألة أو لم يدركها. فالمشروع التوسعي الصهيوني هو في نهاية المطاف جزء من تركيبة “الشرق الأوسط الجديد” الذي كلفت تركيا والسائرون في فلكها، وفي فلك أمريكا، ببلورته عبر تلك الأساليب التي اعتمدت حتى الآن.