العميد د. أمين محمد حطيط *
عندما قررت إسرائيل العدوان الجوي على سورية، لم يكن في ذهنها او في تصورها ان نصف الطائرات التي ستنفذ العدوان سيصاب بنيران الدفاعات الجوية السورية، لان إسرائيل كانت قد زرعت في نفسها الطمأنينة ان سورية باتت بلا منظومة دفاع جوي بعد ان قام الإرهابيون الذين ادعوا انهم ثوارا،
ونفذوا ما أمرتهم به إسرائيل ونالوا من فعالية منظومة الدفاع الجوي التي كانت تردع إسرائيل قبل بدء العدوان على سورية منذ ست سنوات. كما انها كانت مطمئنة ان منظومة الدفاع الجوي الروسية المنتشرة في سورية لن تتعرض للطائرات الإسرائيلية، وخاصة ان نتانياهو اقنع نفسه وحكومته بانه حصل على وعد روسي بذلك، لا بل على أكثر من وعد، حيث ادعى بانه منح ترخيصا روسيا باستهداف حزب الله ي سورية دون اي تدخل او اعتراض روسي، قناعة أراد نتنياهو ان يعمل بها دون أي تراجع رغم النفي العلني الروسي لها جملة وتفصيلا.
لذلك كان القرار الإسرائيلي بالعدوان الجوي على العمق السوري، قرارا متخذا بخلفية المطمئن للنتائج المقتنع بانه ينفذ العدوان دون مخاطرة، وان الظروف تتيح له ان يقوم بفعلته ليحقق اكتر من كسب ومصلحة. أي ان إسرائيل رأت في العدوان ربح خالص من غير مخاطرة و لا مغامرة و لهذا قررت العدوان من اجل ان تثبت وجودها مجددا في الميدان السوري دعما للإرهابيين الذين يتآكلون و يتساقطون في مواقعهم في مواجهة الجيش العربي السوري و حلفائه ، و من اجل ان تقدم لأميركا أوراق الاعتماد في المساهمة بحرب احتلال الرقة و نقل السيطرة عليها من يد داعش الإرهابية الى اليد الأميركية المباشرة او المقنعة ، و كذلك شاءت إسرائيل ان توجه ضربة كابحة لاندفاعة الجيش العربي السوري تمنعه من استثمار نجاحاته التراكمية التي حققها بشكل متواصل خلال الأشهر الخمسة الماضية بشكل ارسى الارجحية في الميدان لسورية و حلفائها وفتح طريقا لها الى استانة و بشروطها و الى جنيف بمنطقها و فهمها للحل السياسي للازمة التي فرضت عليها .
من اجل هذه الأهداف وفي ظل هذه القناعة أرسلت إسرائيل طائراتها الأربع لتعتدي على موقع سوري في عمق البادية السورية مبررة العدوان كعادتها بسبب روتيني لا علاقة له بواقع او حقيقة تدعي فيه انها تريد ان تمنع حزب الله من امتلاك سلاح كاسر للتوازن وأكثر من ذلك انها تريد ان تطبق على حزب الله القرار 1701 الذي يمنع دخول سلاح الى لبنان الا السلاح الاميري للقوى المسلحة الرسمية اللبنانية.
لكن إسرائيل التي اعتادت الكذب و التزوير و الاستثمار بالخداع و الممالأة الدولية لها ، لم تنجح هذه المرة في حساباتها ، وواجهت في السماء السورية ما لم تكن تتوقع ، حيث كانت في المرصاد منظومة دفاع جوي سوري فاعلة و مؤثرة ، و قرار سوري حازم بالتصدي و المواجهة ، قرار استراتيجي دون قيود منح فيه القائد الميداني سلطة تقدير واسعة لإطلاق النار دون ان يكون بحاجة للرجوع الى قيادته التي أوكلت اليه الامر ، و رأت إسرائيل صواريخ ارض- جو ، كما انها لمست وجود صواريخ ارض- ارض كلها جاهزة للانطلاق ضد الطائرات الإسرائيلية المعتدية وحاضرة لملاحقتها في سماء فلسطين المحتلة حتى و على ارضها .
ان الصواريخ السورية وقبل ان تصب الطائرات الإسرائيلية المعتدية فإنها اسقطت حزمة الأوهام والقناعات الإسرائيلية الفارغة وأظهرت لإسرائيل ومن يقف وراءها او تنتظم معه في معسكر العدوان على سورية ان كل ما روجوا له عن وهن سورية او ضعفها في مجال الدفاع الجوي، هو هراء بهراء. و اثبتت الصواريخ المتصدية للطائرات الإسرائيلية ان سورية تملك منظومة دفاع جوي فاعلة و مؤثرة بعناصرها الثلاثة :عنصر الرصد و التعقب (شبكة الرادارات) و عنصر النار ( الصواريخ و منصاتها) و عنصر القيادة و السيطرة ، وبسبب هذه الفعالية والتأثير تمكنت هذه المنظومة من إصابة نصف الطائرات المعتدية و من حمل النصف الاخر على الفرار ( وفقا لبيان القيادة العامة الجيش القوات المسلحة السورية اسقطت طائرة و أصيبت طائرة و فرت طائرتان) و اكدت نتيجة المواجهة هذه على جهوزية عالية لمنظومة الدفاع الجوي السوري في الساعة 2.40 فجر يوم الجمعة ( زياده في الحيطة قد تكون إسرائيل اختارت التوقيت ربطا بالعطلة الأسبوعية السورية التي تبدأ مساء الخميس الى مساء السبت ).
لقد أحدث الرد السوري القوي والمؤثر زلزالا في المشهد العام بدءا في الشارع الإسرائيلي الذي أرتبك واضطرب وراح اعلامه ينتحب متأسفا عما ضاع من اليد وما ظهر من الحقائق وعما تسبب به الرد السوري من خسائر استراتيجية وعملانية لحقت بإسرائيل وعقدت الموقف المستقبلي عليها بعد ان تبينت لها حقائق تعاكس ظنها حيث لمست:
1- وجود قرار سوري بالمواجهة، قرار استراتيجي متخذ من غير تقييد بشروط او قيود. ولولا وجود هذا القرار لما عملت منظومة الدفاع الجوي بهذه الطريقة السريعة والمؤثرة. وفي هذا استخلصت اسرائيل ومن خلفها مسائل تؤرقهم. فمثل هذا القرار بالتصدي والمواجهة لا يتخذه الا قائد قوي واثق من نفسه وواثق بجيشه وانضباطه واحترافه، مطمئن الى قدرته على المواجهة ومستعد للتعامل مع التداعيات. وهي تعلم ان مثل هذا القرار الاستراتيجي الكبير مع الاستعداد للمواجهة والتبعات لايصدر الا عن القائد العام للقوات المسلحة السورية نظرا لطبيعته الاستراتيجية وخطورة تداعياته. وقد تدرك ان أخطر ما في الرد الصاروخي على عدوانها هو وجود القرار بالرد وبشكل غير مقيد. فالرد كشف لمعسكر العدوان مستوى الثقة بالنفس والطمأنينة التي يعيشها الرئيس الأسد خلافا لما عمل العدوان على تظهير عكسه.
2- وجود منظومة دفاع جوي سورية فاعلة ومؤثرة ، وهنا انهارت حزمة التصورات و الاوهام الإسرائيلية القائلة بان الإرهابيين اجهزوا على هذه المنظومة و ان السماء السورية باتت مفتوحة امام إسرائيل تعبث فيها متى تشاء , و في هذه النقطة تعلم إسرائيل كم هو مؤلم لها و كم هو مؤثر على قراراتها العسكرية ان تقيد حركة طيرانها الذي تعتمد عليه كرأس حربة في أي عدوان تشنه في أي اتجاه ، و هنا توسع إسرائيل التفسير لتصل الى القول بان منظومة الدفاع الجوي السوري لن ينحصر تأثيرها لصالح سورية فحسب بل لكل محور المقاومة أيضا و هذا سيعني لإسرائيل الكثير .
3- ان الصواريخ التي أطلقت على طائرات إسرائيل المعتدية هي صواريخ روسية وهنا تأكد زيف ادعاءات نتنياهو بالضمانات الروسية المعطاة لإسرائيل بالعبث في الأجواء السورية، وتبين لإسرائيل ان القرار في سورية هو لقيادتها وان أصدقاء سورية هم حلفاء محترمون لا يملون عليها قرارات تعاكس مصالحها. وبالتالي لا يمكن لاحد ان يعقد اتفاقات على حساب المصلحة السورية. وتأكد بذلك للقاصي والداني ان النفي الروسي للادعاء الإسرائيلي هو الصواب بينما الزعم الإسرائيلي هو الكذب والنفاق وان أحدا لم يرخص لإسرائيل بالاعتداء على الأجواء السورية.
لمست إسرائيل هذا فاضطربت و ارتبكت و لم تعرف كيف ترد او كيف تتصرف في الميدان والسياسة او الاعلام حيث ان الصدمة افقدتها الوعي لساعات غير قليلة ، و اذ بها تستعمل او تشغل منظومة الدفاع الصاروخي «حيتس» دون ان تتحقق من الهدف المقصود عما اذا كان صاروخ ارض -ارض يستلزم اطلاق الـ «ارو» او صاروخ ارض- جو لا يتطلب ذلك ، و اسقطت القناع واعترفت بالعدوان خلافا لما اعتادت عليه خلال السنوات الماضية، ثم و هنا الأهم سارعت و بعد ساعات من العدوان على اصدار بيان تؤكد فيه انها غير معنية بالتصعيد أي انها ستنكفئ و تعتبر ان الحادثة انتهت بعدوان إسرائيلي ردت عليه سورية بما يجب وانتهى الامر .
وهنا أيضا خسارة معنوية واستراتيجية أخرى لحقت بإسرائيل تتصل بتصرفها بقرار الحرب، فقد تأكدت إسرائيل مرة أخرى ان محور المقاومة المتماسك والقادر يعزز يوما بعد يوم معادلة الردع المطلق التي فرضها منذ العام 2006 ، و ايقنت إسرائيل الان انها امام مرحلة جديدة في سورية تختلف عما كانت تتمناه ، مرحلة تفرض فيها سورية قوتها الردعية و تجعل إسرائيل اكثر حذرا و حيطة في السلوك العدواني…انها القوة…قوة سورية المقاومة وقوة محور المقاومة الذي شاء العدوان اسقاطه و تفكيكه ، و اذ به بعد ست سنوات يفرض نفسه رقما صعبا و أساسيا في أي معادلة إقليمية و رقما مؤثرا في المعادلات الدولية .