صانعات الآلهة

د. نهلة عيسى:البعث السورية

منذ سنين، وقلبي مطأطئ الرأس منحنٍ، يبحث عما فقد، يفتش في الصور العائلية القديمة، الحميمة، المرصوصة في كيس من خام، وكأنها اللآلئ، أو الدرر، من زمنٍ كانت فيه الصور، مناسبة كبرى يُستعد لها، وملخص عمرٍ، دليل وجود، تتويج محبة، واجتماع قلوب في لحظة فرح، وساعة رضا.

يفتش قلبي في كيس أمي، متسائلاً: عن مبررٍ لهوس الأمهات بالصور، يحفظنها وكأنها الذهب، في محفظة صغيرة في الصدر، يخرجهن باعتزازٍ لكل عابر سبيل سأل، أو لم يسأل: هذه منى، كبرى بناتي، وذاك علي، الولد الشقي، وريما وسطى وست البنات، ودودو آخر العنقود، وسردية من حنين لا تنتهي، ترى في الوجوه العابثة.. الطفلة، منصات فخر، ورايات عز، ودليل خصوبة، واستمرار حياة، فيما بعد.. بعد الحياة؟!.

يفتش قلبي في صور أمي، أنا وسط، ووسطى أربع بنات، شقراء وحيدة، ووهمي أني الأجمل، ولكني لست كذلك، فلكل منهن طعم ونكهة، يرتدين، عدا الرضيعة، ألبسة موحدة، فذاك زمان، كان الحب فيه تساوٍ، بين الكبيرة وحتى الصغيرة، وربما كنت الأثيرة في قلبي أبي، ولكني كنت كغيري فيما يتعلق باللبس والصرف، ألم أقل لكم: كان ذاك زمان، العدل فيه، حتى في الظلم، إثبات حب.

يفتش قلبي في الصور، هؤلاء صحبي، نحن في الربيع، في كسب، هذا هيثم، تلك منار، وميثم، وهدى، وعلاء، وشرف، وفجأة تغلف عيوني سحابة دمع، فكثير من أماكن احتوتنا، وأسماء جلّ من أتذكرهم، باتت أعمدة نعي، ومصائر غامضة، وأماكن جنوني، ورفاق صباي يغادرون الصور، ويقبلون من الماضي والصمت نحوي، وجهاً فوجهاً، فيجتمع الشمل، لنعود كما كنّا، نتشارك في الضحكة، والخبز، والملح، والتبغ، ولكن ليس في المرارة، لأنهم صاروا خارج كل مرارة، ما أقبح الأعمدة لا نستطيع تسلقها، إلا إذا متنا!.

يفتش قلبي مصراً، في الصور العائلية يبحث عما فقد، هذه صورة فيها أبي شاب، قويّ، بهيّ، يحملني على كتفيه، وعلى وجهي نظرة الطفل المدلل.. المُتدللِ، فبيننا علاقة كعلاقة البحر بالنوارس، نحن توءمان تباعدَ بهما الزمان، فاستدركا البعد، وولد أحدهما من الآخر، وباتا لبعضهما هاجسين، يسير كل منهما نحو الآخر، ويظنان أنه ليس بينهما أحد، وكأن الحياة أبد!.

يفتش قلبي عما فقد، هذه صورة لأمي وأبي، هو جالس وخلفه كالأميرة هي، تظن العالم في يمين يمينها، قصة حبها بين يديها، هي تحبه حتى الثمالة، وتزهو بذلك، الصورة تشي بهذا، وهو كرجال ذاك الزمان، يخجل أن يعلن حبه، ولكن الصورة تفضح التماسك، فطرف عينه مبتسم على يد أمي، فخور أنه حبيب تلك المرأة.

أتذكر هذه الصورة، تلك الملامح ذات العذوبة، والعيون التي تترقرق بالطيبة،  والنظرات الشاردة تنتظر عودته، وذاك الحديث اليومي، الدائم المتصل لنا: أبوكم قال، أبوكم جاء، أبوكم جلب، أبوكم تعب، أبوكم نام, ولو طالت أمشتنا على الزبد، ممنوع حتى الصدى.. آآآآآآه يا أمي ما أروعك، ما أجملك، ما أطهرك، ينحني قلبي باحثاً عما فقد، عما يفصل بينه وبين كل أحد، ويصل بينه وبين كل أحد، فلا يجد سواك أحد، أعشق أبي امتداد وجودك، كل الآباء يا أمي آلهة، صنعنهن الأمهات!.

اخبار الاتحاد