بسام هاشم:
كأننا في الأشهر الملتهبة للعام 2012، وفصولها الدموية والحارة، ولكن في الوجهة المعاكسة. كانت “جبهة النصرة” في أوج صعودها الإرهابي في تلك الفترة، مستميتة لتصدّر طوفان العنف واحتكار تمثيل معارضة لا ملامح لها، ولكن هناك من يريد لها أن توجد من عدم المطالب المحقّة، وذلك عبر سلسلة من تفجيرات انتحارية مروّعة وصادمة تستهدف قلب دمشق، وتجمعاتها السكانية المزدحمة، ووفق تكتيكات منسوخة من مآثر الزرقاوي و”دولة العراق الإسلامية”. وكان هناك من يخطط، غربياً وخليجياً، بالتوازي، لتقليدها (النصرة) مقام “المعارضة المحلية المسلحة” – الراديكالية بالإضافة، كنوع من الواقعية السياسية المحسوبة- لكي ينزع عنها صفة الإرهاب القاعدي العابر للحدود، وينقل على ظهرها مخططاته التآمرية إلى المحافل الإقليمية والدولية.
المشهد على عصفه وتوقّعاته ورهاناته يتكرّر اليوم بعد أربعة أو خمسة أعوام، ولكن في المنحدر الآخر، فـ “النصرة” تتخبّط اليوم في مسار هبوط، وتصارع في معركة بقاء مرشّحة لإنهائها وجودياً، والرهانات الخارجية على تنصيبها عموداً فقرياً للمعارضة الضاربة، سياسياً وعسكرياً، ولّت إلى غير رجعة، خاصة بعد تصنيفها تنظيماً إرهابياً دولياً، علاوة على أنه بات لـ “النصرة” تاريخها الطويل والمتعرّج من الاقتتالات الدموية والتصفيات المتبادلة مع باقي الجسم الإرهابي المترامي الأطراف في سورية، وحتى خارجها، والأهم من ذلك – كما يبدو – هو أنها باتت تدور داخل شرنقتها الذاتية.. “عظاءة جهادية” متحجّرة ومنقطعة عن مجريات الأحداث، وغير ذات صلة إلا بحفنة من ديناصورات الإرهاب الوهابي الجريحة والحاقدة في السعودية وقطر.
هكذا تدخل “جبهة النصرة” معاركها في جوبر وريف حماة الشمالي بهزيمة معلنة سلفاً، وهكذا تجرّ معها باقي شتات المعارضة إلى مواجهة سياسية جديدة أقل مايقال فيها: إنها خاسرة، أو -بالتعبير التقني- غير متكافئة. وهكذا أيضاً تتضاءل الآمال بتحقيق أي اختراق في جنيف، مهما كان نوعه، طالما أن السعوديين العائدين من لقاء ترامب لا يزالون يقرؤون الرسائل خطأً، وأن القطريين، الذين جرفتهم تطوّرات الأحداث، لايزالون يعتقدون بجدوى اللعب تحت الطاولة. ففي محيط منطقة المغازل خسرت “فيالق” الإرهاب خلال أربعة أيام ما احتفظت به خلال أربعة أعوام تحت اعتبارات مختلفة، لتصل معها المعارضة المسماة “معتدلة” إلى طاولة المحادثات بدون ذراعها المسلّح، وهو متغيّر إستراتيجي لابد أن يؤخذ بالحسبان، ولابد أنه سيحكم قواعد التفاوض انطلاقاً من حقيقة المعطيات الميدانية الناشئة. لقد ظهر ذلك واضحاً على امتداد الأيام القصيرة لعملية “ياعباد الله اثبتوا” الخلبية، حيث تردّدت ما تسمّى بالمنصات، على اختلافها، بين اعتبار العملية الإجرامية، هذه، بمثابة دعم سياسي “هبط من السماء”، وعلى غير انتظار، وبين الصمت على إجرامها تحسباً لنهاية منتظرة.
أفرغت “جبهة النصرة”، دفعة واحدة، كل ما في جعبتها من إدعاءات وتوهمات وانتصارات جرى الاتفاق عليها مع كل من محطتي “العربية” و”الجزيرة”. كان يكفيها الانتشاء لبعض الوقت بمشهد القذائف العشوائية فوق بعض المناطق، وصور بعض الضحايا المدنيين، لكي تظفر بزيف العودة إلى “أمجاد” الدم الغابرة، وهول الجنون الأول. لقد توهّمت أن أحداً ما (لم قد لا يكون هي!؟) لايزال بمقدوره العودة بالوضع إلى نقطة البداية، وقلب الطاولة حتى على رؤوس دهاقنة المعارضة المتصدّعة أصلاً ببؤس خياراتها ومرجعياتها وولاءاتها.. وعمالاتها. غير أن النتيجة الوحيدة كانت ضربة -قد تكون مميتة هذه المرة- لم تخترق منطقة المعامل بقدر ما اخترقت كل نسيج المعارضة الخارجية، وقد تقفل نهائياً باب الدعم الخارجي -الخليجي خاصة- للمجموعات التكفيرية تحت وطأة اندحارها الميداني المعلن، الأمر الذي لا يبدو مستبعداً بعد الاعتراف السعودي في واشنطن بأن “سورية معركة خاسرة بالنسبة لنا”.
قد لا يتحرّك الزمن دائرياً، وقد لا يعيد التاريخ نفسه إلا مقلوباً -وفق الصيغة الماركسية- بحيث يمكن فهمه واستيعابه، ولكن المشكلة قد تكون على هوامش التاريخ وخارجه.. هنا حيث تسقط التجارب والدروس خارج المحاكمات والقياسات المنطقية لتفسح الطريق أمام كل أشكال الهذيانات المدروسة والهيستريا الجماعية المنظمة عن بعد.
لن تكون سورية خلاف غيرها من الدول. ولا يمكن لأحد أن يفرض على سورية ما لا تقبله أمة من الأمم الكريمة والشجاعة والسيّدة. إن مستقبل شعبنا لن تصنعه المقترحات ومسودات المقترحات الوافدة من الخارج، ولا المؤتمرات والاجتماعات المعدّة في العواصم والمدن الأجنبية، ومن أطراف مختلفة. إن أشد ما تحتاجه سورية الآن هو معارضة وطنية بكل معنى الكلمة.. معارضة لا تضع نصب عينيها إلا مصالح شعبها ووطنها.