فشلاً بعد آخر يواجه نظام أردوغان في الوصول إلى الجاليات التركية المقيمة في الدول الأوروبية، بهدف التحضير للاستفتاء المزمع إجراؤه في 16 نيسان القادم لتمرير التعديل الدستوري الخاص بتوسيع صلاحيات رئيس النظام رجب أردوغان، فبعد التوترات الساخنة بين ألمانيا وتركيا على خلفية منع السلطات الألمانية لتجمعات الأتراك هناك، اشتعلت نيران حرب دبلوماسية حامية الوطيس بين تركيا وهولندا حيث منعت السلطات الهولندية هبوط طائرة تقل وزير خارجية النظام التركي مولود جاويش أوغلو الذي كان متوجهاً إلى هولندا لحضور تجمع يسعى إلى حث الأتراك المقيمين هناك على التصويت لمصلحة التعديلات الدستورية الجديدة، وأعلن عمدة مدينة روتردام الهولندية عن إلغاء هذا التجمع، ما أثار حفيظة أردوغان الذي أطلق تهديدات هيستيرية ضد الدول الأوروبية.
وتعترض الدول الأوروبية على تبديل النظام البرلماني في تركيا بنظام رئاسي تعده تحولاً نحو المزيد من الديكتاتورية والحكم المطلق، وتنظر إلى أن الاستفتاء القادم غير شرعي لأنه يتم في ظل حالة الطوارئ التي فرضها أردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف تموز الماضي، ومن خلالها يريد تمرير تعديلات دستورية جذرية تخوله صلاحيات واسعة لم يسبق لتركيا أن عاشتها من قبل، حيث تمكنه الصلاحيات المطروحة على الاستفتاء من أن يعيّن مباشرة كبار مسؤولي الدولة بمن فيهم الوزراء، كما تلغي التعديلات منصب رئيس الوزراء الذي يشغله الآن بن علي يلدريم وتمنح الرئيس حق التدخل في القضاء الذي يتهمه أردوغان «بالخضوع لنفوذ رجل الدين المعارض فتح الله غولن» الذي حُمِّل مسؤولية الانقلاب الأخير، كما تعطي الرئيس حق تقرير ما إن كان يجب فرض حالة الطوارئ أم لا، وتشير تقارير إلى أن التعديلات الجديدة سوف تتيح لأردوغان البقاء رئيساً لتركيا بصلاحيات واسعة حتى عام 2029 .
ويبدو أن ما أقدمت عليه كل من ألمانيا وهولندا ليس إلا بداية الطريق لمواجهات أكثر سخونة بين تركيا وعموم القارة الأوروبية التي تنظر إلى نظام أردوغان على أنه يشكل تهديداً لأمنها القومي بسبب دفع موجات كبيرة من اللاجئين من تركيا إلى أوروبا، وأن حكومة «العدالة والتنمية» أضحت المسبب الأكبر لأخطر أزمة يتعرض لها الاتحاد الأوروبي نتيجة سماحها بتدفق اللاجئين بأعداد كبيرة وبشكل مقصود وممنهج لإغراق البلدان الأوروبية بالمهاجرين، واستخدام أزمة اللجوء كوسيلة لابتزاز أوروبا سياسياً ومالياً فمن الناحية السياسية يريد أردوغان أن ينتقم من الأوروبيين لاستبعادهم قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن الناحية المالية لم يكتف بحصوله في كل مرة على مليارات «اليوروهات» بل صار يطلب المزيد بذريعة «مساعدته على إيواء اللاجئين» في بلاده ومنعهم من العبور إلى أوروبا .
لقد سبقت الخطوة الهولندية الأخيرة خطوات من دول أوروبية عديدة تجاه التصرفات التركية، فقد واجهت المحاولات التركية للدعوة للاستفتاء الدستوري عقبات في محطات أوروبية بدأت بالنمسا مروراً بألمانيا وسويسرا، ففي النمسا التي يقطنها حوالي 350 ألف شخص من أصول تركية، أعلنت فيينا، أواخر شهر شباط الماضي ، أنها لا ترحب بإجراء أي فعاليات دعائية على أراضيها بمشاركة أردوغان أو غيره من المسؤولين الأتراك، وأوضح وزير الخارجية النمساوي سباستيان كورتس موقف بلاده، بالقول: إن زعماء ورؤساء حكومات جميع الدول بإمكانهم زيارة النمسا أو أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات ثنائية، لكن أي فعاليات في إطار الحملات الانتخابية غير مرحب بها، لأنها تنقل النزاعات والخلافات بين الناس من تركيا إلى النمسا، بينما دعا المستشار النمساوي كريستيان كيرن إلى رد جماعي من الاتحاد الأوروبي لمنع مثل هذه التجمعات الانتخابية لمسؤولين أتراك في أوروبا.
لكن الخلافات الأكبر كانت بين تركيا وألمانيا التي تشهد علاقتها مع تركيا في الآونة الأخيرة مشكلات كبيرة، ولاسيما على خلفية اعتقال السلطات التركية الصحفي الألماني دينيز يوجيل، كما ألغت سلطات مدينة جوجيناو الألمانية تجمعاً للجالية التركية المحلية كان من المخطط أن تجري بمشاركة وزير العدل التركي بكير بوزداغ، مبررة قرارها بدوافع أمنية، ليتم لاحقاً منع إجراء سلسلة من الفعاليات الدعائية المماثلة بمشاركة وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكتشي في مدينتي كولونيا وفريهين، ووزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في مدينة هامبورج .
قوبلت هذه الخطوات الألمانية بغضب شديد من أردوغان، الذي اتهم السلطات الألمانية باستخدام ما سماه «ممارسات نازية»، وواجهت هذه التصريحات انتقادات شديدة في ألمانيا، التي تعيش فيها أكبر جالية تركية في العالم تضم نحو 1,4 مليون نسمة، حتى إن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل استغربت اضطراب أردوغان وعدم قدرته على ضبط النفس ودعته إلى التعقل.
ليس في يد النظام التركي من رد على الخطوات الأوروبية سوى هيستريا التهديدات والأوصاف، فقد وصف الأوروبيين بـ «النازيين أو فلول النازية»، في محاولة من النظام التركي الترويج لسياساته الداخلية خارج الحدود وتبرير خلفيات ما تقوم به الدول الأوروبية تجاه نظام أنقرة في حين أن الأسباب الحقيقية لهذه المواجهات الساخنة تكمن فيما يلي :
– بقيت صورة النظام التركي في الغرب محوطة بالاستبداد وقمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان ولم تُجْدِ كل المحاولات التي قام بها نظام أردوغان لتغيير هذه الصورة، وظل الاتحاد الأوروبي يعد تركيا غير مؤهلة للانضمام إليه ورفض طلبات ترشيحها للعضوية طوال السنوات الماضية .
– باتت الدول الأوروبية على قناعة بأن العمليات الإرهابية التي ضربت عواصم ومدن أوروبا جاءت من الأراضي التركية وبات مكشوفاً أن هناك علاقات وثيقة بين النظام التركي وتنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية وقبلها مع تنظيمي «القاعدة» و«طالبان» في أفغانستان.
– انكشفت لعبة أردوغان بشأن أزمة اللاجئين وتبيّن أنه وراء إنتاجها وأنه أراد استخدامها لتكون قنبلة موقوتة تنفجر في وجه الدول الأوروبية في خطة شيطانية تهدف لتفكيك الاتحاد الأوروبي وتقويضه كرد انتقامي على رفض هذا الاتحاد لعضوية تركيا فيه .
– كانت الدول الأوروبية بمعظمها مرحبة ضمناً بالانقلاب العسكري الذي وقع في منتصف شهر تموز من العام الماضي ضد نظام أردوغان، وربما ساهمت فيه بشكل خفي وهذا ما خلق شكوكاً بين الطرفين وانعدمت الثقة كلياً من حينها كما تقلصت العلاقات وأضحت المواقف الأوروبية معادية إلى حد كبير لسياسة حزب «العدالة والتنمية».
– لا ترغب الدول الأوروبية أن يتحول النظام في تركيا إلى نظام رئاسي يزيد من صلاحيات أردوغان ويجعله حاكماً مطلقاً، ولذلك هي ترفض أن تقدم له ساحاتها للدعاية والترويج للتعديلات الدستورية، ويشن الإعلام الأوروبي أشد الحملات المناهضة لهذا التحول في النظام التركي ويؤيده في هذا الرأي العالم الغربي بأسره معداً أن أردوغان قد أصابه جنون العظمة .
من غير المتوقع أن تهدأ نيران التصعيد والتوتر بين الدول الأوروبية ونظام أردوغان قريباً، فكل طرف يتوعد الطرف الآخر بمزيد من الردود والإجراءات العقابية، ومنها إغلاق متبادل لمقار البعثات الدبلوماسية بين الطرفين، فالأزمة لم تعد عابرة وليست بالسهولة معالجتها، وما من شك في أن سياسة أردوغان الرعناء المؤيدة للإرهاب قد أوقعته في أزمات حادة داخلياً وخارجياً، وأن استفزازاته المستمرة وتصرفاته الحمقاء وضعته وجهاً لوجه على طريق العداء لدول الجوار كلها، وهي تضعه اليوم على خطوط مواجهات ساخنة مع أغلبية الدول الأوروبية .. و«على نفسها جنت براقش».