لا تبدو المقاربة القائمة في سياق الحديث عن جنيف مرتبطة بما يجري في قاعاتها أو أروقتها، بقدر ما هي متسقة مع ما يجري التحضير له خارجها، وتحديداً في المشهد الميداني الموازي الذي يضيف من خلال متوازيات التسخين فيه الكثير من الزيت على نار المواجهة القائمة سياسياً وميدانياً.
فالفصل هنا افتراضي محض، والطرح في جنيف بات -برأي الكثيرين- مجرد تثبيت نقاط تم من خلالها حتى اللحظة تحريك مياه راكدة لم يرد لها البعض أن تخرج عن سياق الرتم الاعتيادي، بحيث لا يكون الناتج بين لحظة إشعال الأضواء في قاعاتها وإطفائها أكثر من فارق زمني يُقاس بعدد الأيام وليس بعدد الجلسات والأوراق التي شهدتها طاولاتها.
وهذا ما يدفع إلى الجزم بأن الاصطياد لم يعد حكراً على مياه جنيف، بقدر ما بات صنعة يتبادل فيها الأميركيون وحلفاؤهم وأدواتهم ومرتزقتهم الأدوار والمشاهد تبعاً لأمر العمليات الذي تحدده اليوم مقتضبات البنتاغون “المسهبة” أو المقتصرة على عينات من الحديث سرعان ما تظهرها تطورات الميدان أو تشرح بعضاً منها، وفي أحيان أخرى تطيل الشرح في تفسير بعض ما يتسرب من داخل أروقة البيت الأبيض على ألسنة سياسييها، عن استراتيجية لا تزال تصرّ على الغموض والضبابية في تحديد عناوينها أو مفرداتها.
في المحصلة.. جنيف الخامسة تعيد إشعال النار تحت مراجل خمدت فيها الرغبة السياسية، وحضرت بديلاً منها سخونة الميدان، وحالة العودة إلى الأصل الإرهابي بعد أن خلع البعض ممن شارك فيها أطقم السياسة ليعلن على الملأ أنه يمثل النصرة وأخواتها ومشتقاتها، ولبس بدلاً منها عباءة النفير الذي أطلقته النصرة، ولا فرق في الميدان حتى لو حاولت السياسة أن تُفرّق أو تعطي تفاصيل التباينات الحادة القائمة، فخرجت من الاستخدام السياسي بعد أن مارست أميركا سياسة التثاؤب لتعطيل أي اندفاعة غير محسوبة أو منضبطة، فتميط اللثام -عن عمد أو من دونه- عما هو مسكوت عنه.
لذلك لم تكن السطور الواردة في محاضر جلسات جنيف هي الشاهد الوحيد على سياق التجريب والتخريب في الآن ذاته، بل شاركتها في المهمة سطور تكتب من خارجها، وملفات تفتحها تطورات الميدان وليس مقتضيات السياسة، فجاءت بعناوينها وتفاصيلها متطابقة مع الجذر الإرهابي ذاته، الذي تحاول أميركا تدجينه ليكون على مقاس استراتيجيتها تلك، وبعيدا عن تشوهات المساهمين الإقليميين والمشغلين الأصليين لنسخة الإرهاب التي كانت تحت عناوين النصرة وداعش، فتعيد إنتاجها في الميدان على شكل بيادق مرنة ومتفاعلة مع النموذج الإرهابي القادم.
ما يجيز ذلك ليس حالة الخلط بين الطرح وعدد الأوراق المدرجة على جدول الأعمال أو أرقامها المتسلسلة، أو تلك التي عمد المبعوث الأممي لتبقى من دون رقم، فتنتج حالة هلامية بصبغة خالية من أي دلالة تؤشر إلى حد بعيد حال الجولة الحالية التي ينشغل فيها باستحقاقات تبدو أكثر أهمية بالنسبة له من جنيف، أو ليقول بأن وجوده وعدمه يكاد يتساوى في النتيجة..!! وربما الأمر ينسحب أيضاً من منظوره الخاص على جنيف الحالي وأن انعقاده أو عدمه وسواء حقق شيئاً أم لم يحقق أيضاً يتساوى في الحصيلة النهائية!!؟
ما بين السطور التي تُخَطّ في قاعات جنيف، وتلك التي تُعدّ خارجها لتكون بدائل أو مصدات إضافية تحول دون إحداث أي خرق، تكمن كلمة السر وربما اللغز، والكثير من الأحجيات التي لا تزال تمثل نقطة العبور الأميركي إلى العبث السياسي، وربما جسر التواصل بين الإرهابيين ومشغليهم، الذين يدخلون جنيف ويخرجون منها هذه المرة من دون أوراق أو ملفات، فحاصل ما استهلكوه في جنيف لا يختلف عن تلك الخيبة التي ارتسمت خارجها، وتحديداً في ميدان كانوا يعولون فيه على التصعيد الإرهابي، فجاءت الحصيلة مطابقة لنسخهم السابقة ومستنسخة من تفاعلات الفشل، الذي يحاول الأميركي التغطية عليه بغموض متعمد وضبابية مقصودة بذاتها.