لم تكد المندوبة الأميركية تنطق بالحديث عن تركيز إدارتها على مكافحة داعش، ومن بعدها البيت الأبيض بضرورة التعامل مع الواقع السياسي في سورية، حتى كانت مشاهد الخلط بين الواقع والتمنيات في مقاربة السياسة الأميركية تفيض عن الحاجة،
فيما لامست مشاهد اللغو السياسي والثرثرة الإعلامية مستويات غير مسبوقة على وقع مشاحنات وافتعال المعارك المجانية، وإن بقيت جميعها عاجزة عن محاكاة موضوعية لتلك المقاربة التي بدت أقرب إلى إعلان نيات أكثر مما تعكس إرادات حقيقية لمواجهة الإرهاب واعتباره الهم الأول والأساسي للسياسات المعتمدة وتحديداً في عهد الإدارة الجديدة.
في الاستنتاج الأولي تبدو جملة من المتغيرات مرتبطة بسياق الفهم المتسرع للموقف الأميركي الأخير الذي أعلن فيه نزوعاً نحو الاختلاف أو التمايز عما سبقه وقد قدمه البعض بشيء من المبالغة فيما البعض الآخر كان يذهب إلى أبعد من ذلك حين حاول أن يفسره بأنه يشبه القطيعة مع سياسات الإدارة الأميركية السابقة لجهة الأولويات، من دون أن يأخذ بالاعتبار أن التجربة مع المواقف الأميركية تجزم بضرورة التريث وربما الانتظار لوقت أطول بكثير مما يراهن عليه البعض حتى يتبين الخيط الأبيض في السياسة الأميركية، على قلته، من الأسود، على ما فيه من تخمة، باعتباره الطاغي والمسيطر على مختلف جوانب المشهد.
فأولوية مكافحة الإرهاب أو التركيز عليه والاهتمام بمحاربته قولاً وفعلاً تحتاج لكثير من المقاربات المتسقة معها، حتى تتصدر سواها، حيث لا معنى لها إذا ما بقيت منفصلة أو بمعزل عن تغيير بجملة العوامل المرتبطة بها، وفي مقدمتها أن مكافحة الإرهاب تقتضي عزل العوامل الأخرى المتشابكة معه وإحداث مقاربة مشابهة، وفي مقدمتها آليات التعاطي مع مموليه ومشغليه والمراهنين عليه أو المعولين على تنظيماته لإحداث الفرق الذي طالما شكل على مدى السنوات الماضية جسر العبور إلى العلاقة مع أميركا وسياستها، حيث لا يمكن مواجهته من دون مواجهة مع داعميه ومع منتجيه.
وهذا يحسم مختلف الاستنتاجات المتسرعة، ويجزم بأنه لا يزال من المبكر التفكير بانتظاره أو تخيل إمكانية حصوله على وقع ما يجري من معطيات معاكسة أو مغايرة، وعلى ضوء تجارب الشد العكسي التي لا تتردد في وضع العصي أمام عجلات أي تغيير أو مقاربة يمكن أن تقدم عليها الإدارة الأميركية، وهي بفعل داخلي كما هي من إنتاج أطراف ودول أدمنت دورها الوظيفي من خلال الرهان على الإرهاب وربما تجيير كل ما تملكه من أوراق في هذا الاتجاه وبشكل حصري، حيث تتسابق في التفسير والشرح ولا تتردد في الإضافة هنا والحذف هناك لتتطابق في حصيلتها النهائية مع تمنياتها أكثر مما تعكس واقع الحال.
ما يلفت أن هناك من تلقف المشهد ليقدم مرافعة دفاعية مسبقة حول المتغيرات والتحضير اللوجستي والميداني من أجل الحفاظ على نسق التوافق والاتفاق بين ما تطرحه الإدارة الأميركية وما ينسجم مع دوره الوظيفي سواء كان بشكله التقليدي المعتاد أم اقتضى أن يمضي في مهمته المستنسخة من تجارب السنوات الماضية، حين قبل أن يكون حبيس الزوايا الضيقة التي أفسحتها له واشنطن، وارتضى بفتات ما توكله له من مهمات يغلب عليه الطابع الأكثر قذارة والتي تحاول واشنطن التعفف عنها..!!
والأكثر مدعاة للتوقف والتأمل حالة التصادم بين المواقف المتباينة والتداعيات المختلطة والتي دفعت إلى الاصطفاف مع انقسام شاقولي وأفقي متعدد المستويات، بين الاحتشاء السياسي الذي دفع إلى أن يبلع الكثيرون لسانهم، وبين جزء من هستيريا سياسية دفعت نحو لغو وثرثرة في غير موقعها ومن دون توقف، وهي تجسد في نهاية المطاف قدراً لا يخفى على أحد من الصدمة وإن بدت حتى اللحظة متوارية أمام انتظار يبدو أنه سيطول على وقع ما هو معتاد من ردات فعل أميركية واستراتيجية تتبنى الغموض في ملامسة أو محاكاة تلك التداعيات.
وعلى مبدأ الماء يكذب الغطاس فإن سيل التجارب السابقة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة يكذب طوفان التصريحات السياسية رغم التدافع الحاصل في تلقفها وإلباسها ما يفيض عن قدرتها على تحمله، وسط موج من التلاطم بين اطراف وقوى تتعرى حتى من ورقة التوت وتفقد آخر ما في جعبتها، يقابلها على المقلب الموازي لها لطم أميركي مزدوج يقيم الدنيا ولا يقعدها ويفتح الباب على مصراعيه أمام تكهنات وتسريبات وسيناريوهات تجعل أي يقين أو شبه يقين بتصديق أي مقاربة أميركية أو الركون لوعودها وتحالفاتها ضرباً من العبث السياسي.