د. مازن المغربي:البعث السورية
يصر القائمون على إدارة السياسة في الولايات المتحدة على تنصيب أنفسهم في موقع الحكم الذي يمتلك القدرة على تشخيص وضع حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، ويبنون على تقديراتهم المشبوهة سياسات عدوانية، لكن العالم تغير بشكل حقيقي، وعصر هيمنة واشنطن على المسرح العالمي صار من الماضي. صحيح أن الولايات المتحدة تمتلك أقوى جيوش في العالم، لكن قدرتها على توظيف القوة العسكرية تظل مقيدة بالكثير من العوامل، خصوصاً بعد بروز قوى عسكرية جديدة قادرة على توجيه ضربات موجعة إلى قلب الولايات المتحدة. كما تغير الوضع على الصعيد السياسي مع صعود كل من الصين وروسيا وإيران بوصفها قوى إقليمية كبرى تمتلك العديد من القدرات لردع جموح الساسة في الولايات المتحدة. وضمن سياق المجابهة، القائمة فعلياً بين الولايات المتحدة والصين، لم تكتف بكين بإثبات قدرتها على ردع المخططات العدوانية الموجهة ضدها من خلال توتير الأوضاع في منطقة بحر الصين، بل انتقلت إلى موقع الهجوم في ميدان ظل على مدى عقود طويلة حكراً على واشنطن وحلفائها من بلدان الديمقراطيات التمثيلية.
ففي التاسع من آذار 2017، أصدر مكتب الإعلام الحكومي في بكين تقريراً حول “أوضاع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة خلال عام 2016″، مرفقاً بتوثيق دقيق لكل معلومة واردة فيه بالاستناد إلى إحصائيات رسمية أجرتها جهات رسمية في الولايات المتحدة. وبعد قراءة التقرير، لا يمكن للمرء إلا أن يتساءل عن درجة وقاحة وصلافة الخطاب السياسي الذي تستخدمه واشنطن عند الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى.
كان العام الفائت مريعاً فيما يتعلق بأمن مواطني زعيمة العالم الحر، حيث شهدت البلاد 58,125 جريمة استخدم فيها السلاح الناري، وأسفرت عن مقتل أكثر من خمسة عشرة ألف ضحية، وجرح أكثر من ثلاثين ألف شخص، وبرزت ظاهرة قيام رجال الشرطة بإطلاق النار دون مبرر مستهدفين بشكل خاص المواطنين من أصول إفريقية.
توزع التقرير على مجموعة من الفصول خصص الأول منها لتردي الوضع الأمني بشكل صار يهدد حياة المواطنين نتيجة لانتشار ظاهرة حيازة الأسلحة النارية، وتشكيل مجموعات ضغط تعارض فرض أي قيود على شراء الأسلحة الفردية والذخائر. وأشار تقرير حول معدلات الجريمة في الولايات المتحدة، وصدر عن الشرطة الفيدرالية، إلى أن العام 2015 شهد أكثر من مليون جريمة تخللها اللجوء إلى العنف، وتضمنت أكثر من خمسة عشر ألف جريمة قتل. كما انتشرت ظاهرة قيام رجال الشرطة بإطلاق النار على مشتبه بهم وقتلهم دون مبرر. وتعاني السجون من ازدحام شديد، حيث بلغ عدد السجناء مليونين ومائتي ألف عام 2014. وقد يقول البعض أن ارتفاع مستوى الجريمة وازدحام السجون له ما يبرره، لكن عند التدقيق بموضوع الحريات السياسية ندرك أن هناك سياسات شمولية تهدف إلى فرض جو من الرعب بهدف ردع أي محاولات لتنظيم حركات احتجاج سياسية.
تميزت انتخابات العام 2016 بتدهور مستوى الخطاب السياسي، وارتفاع تكاليف الحملات الانتخابية إلى أرقام فلكية قاربت السبعة مليارات دولار، ولكنها عجزت عن إقناع أكثر من 45% من الناخبين الذين قاطعوا الانتخابات الفيدرالية والرئاسية، وكان قسم كبير منهم مدفوعاُ بالرغبة بالتعبير عن الاحتجاج ضد النخبة السياسية. وضمن هذا السياق أوردت صحيفة “واشنطن بوست” أن تكاليف حملة المرشحة هيلاري كلنتون بلغت ملياراً وأربعمائة مليون دولار، في حين وصلت تكاليف حملة دونالد ترامب إلى 932 مليون دولار.
وترافق ذلك مع تدهور ملحوظ في مستوى حياة الفئات الوسطى، واشتداد الاستقطاب نتيجة ازدياد ثروات الأغنياء وتفاقم وضع الفقراء، وهو أمر سلطت عليه الضوء صحيفة “وول ستريت جورنال” التي أوردت أنه، خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، ذهب ما يقارب من 70% من الدخل القومي إلى جيوب نخبة الـ 10% المتربعة على قمة الهرم الاجتماعي. وبالمقابل، تدهورت أوضاع الفئات الأشد فقراً حيث يعيش قرابة 45 مليون شخص في حالة الفقر، مع وجود قرابة خمسمائة ألف مشرد بدون مأوى يعيشون أوضاعاً مزرية. وترافق هذا مع ارتفاع حالات الانتحار، حيث أشار تقرير لمركز رسمي مختص في مراقبة الأمراض إلى أن العام 2013 شهد أكثر من أربعين ألف حادثة انتحار.
ولا يقتصر تدهور الأوضاع الاجتماعية على قطاع محدد بل يشمل مختلف جوانب الحياة، حيث يعاني القطاع الصحي من تدهور جودة الخدمات التي يقدمها، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف العلاج، في حين يعاني قطاع الضمان الاجتماعي من شحة الموارد حيث وصل عدد المسجلين على قائمة انتظار المعونة الاجتماعية إلى مليون ومائة وستة وثلاثين الف شخص سيضطر معظمهم لانتظار دراسة ملفاتهم شهوراً طويلة وربما أعواماً.
كما تفاقمت مشكلة التمييز العنصري، وتوسعت الفجوة بين مستوى دخل المكونات الاجتماعية من غير البيض. وينتشر التمييز العنصري في المدارس وأماكن العمل، حيث أشار تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن 69% من المواطنين – ممن شملهم استطلاع حول مشكلة التمييز العنصري – أقروا بأن العلاقات بين الأعراق في الولايات المتحدة سيئة للغاية. ويتجلى تفاقم التمييز العنصري في أسلوب تعامل الشرطة مع غير البيض، وخاصة مع ذوي الأصول الأفريقية، وكان العام 2016 من أكثر الأعوام دموية، حيث شهد مصرع 303 أشخاص من أصل أفريقي برصاص الشرطة. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن معدل البطالة بين السود يبلغ ضعف مثيله عند البيض، كما تزيد معدلات البطالة بين صفوف المتحدرين من أصول أمريكية لاتينية بمقدار 35% مقارنة مع البيض، وثمة تمييز واضح فيما يتعلق بالأجور حيث يحصل البيض على رواتب أعلى.
ويعتبر قطاع التعليم من القطاعات التي تعاني من مشكلة عنصرية عميقة الجذور، فمن بين مليونين ومائتي ألف تلميذ تم توقيفهم عن الدراسة، عامي 2013-2014، نجد أن أكثر من مليون منهم ينتمون إلى أصول أفريقية.
ويعاني مجتمع الولايات المتحدة من ظاهرة انتشار العنف المنزلي الذي يطال الأطفال والنساء والمتقدمين في العمر. وبشكل عام، تتقاضى النساء أجوراً أقل من الرجال، ففي مدينة نيويورك، على سبيل المثال، تحصل المرأة العاملة في هيئات حكومية على راتب يقل بنسبة 18% عما يحصل عليه الرجال. كما تنتشر ظاهرة التحرش الجنسي لتطال ربع النساء العاملات في مختلف القطاعات. وحال الأطفال في “عرين الديمقراطية” لا يدعو للارتياح، حيث أشارت التقديرات الرسمية إلى أن ستة ملايين وثمانمائة ألف طفل، بين العاشرة والسابعة عشر من العمر، يفتقرون إلى الأمان الغذائي، الأمر الذي يدفعهم للسعي لجني المال عن طريق نشاطات مشبوهة مثل ترويج المخدرات.
ليس من المستغرب أن تقوم الحكومة، التي تستهتر بأوضاع أغلبية أفراد المجتمع الذي تحكمه، بانتهاج سياسة مماثلة على الصعيد الخارجي. ففي العام 2016، ثابرت واشنطن على انتهاك حقوق الإنسان في العديد من بلدان العالم من خلال شن العديد من الغارات ضد سورية والعراق واليمن والصومال وافغانستان، وراح ضحيتها أعداد كبيرة من المدنيين. كما واظبت أجهزة الاستخبارات الأمريكية على إدارة مراكز اعتقال وتعذيب في مراكز سرية في مختلف أرجاء العالم. وتكمن المفارقة في أن واشنطن تبرر نهجها العدواني وتدخلاتها في شؤون دول ذات سيادة بحرصها على الدفاع عن حقوق الإنسان، لكنها لم تتردد في قصف غرف التحكم في سد الفرات، مسببة أضراراً بليغة تتهدد حياة ملايين السوريين، وتهدد بحرمانهم من أهم بند في حقوق الإنسان، وهو حق الحياة.