د. وفيق إبراهيم
تذرف دول الخليج وتركيا «دموع التماسيح» على المدنيّين في سورية والعراق، بذريعة أنّ غارات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، وغارات الجيشَين السوري والعراقي والغارات الروسيّة تبيدهم في الموصل والرقّة، حسب مزاعمهم.
وللتوضيح، فإنّ دمشق هي الجهة العربية الوحيدة التي رفضت التدخّل الأميركي في شرق سورية، وأدانت إنزال قوات أميركية فيه وسط تأييد خليجي حار، وبالإمكان التأكّد من ذلك بالعودة إلى وسائل الإعلام الخليجية. ولا أحد يصدّق أنّ واشنطن لم تخبر حلفاءها في الخليج و«إسرائيل» أنّها تدعم الكرد للقضاء على هدفين: الدولة السورية والكرد أيضاً، لأنّ مشروعها لا يزال يذهب في اتجاه تقسيم المشرق إلى ولايات وكانتونات.
والسعودية تعرف أنّ الموافقة الأميركية على تحرير العراق لمدينة الموصل، إنّما تهدف إلى تحقيق المشروع الأميركي بالكيانات الثلاثة في أرض السواد، والدليل هو تشكيل مجموعة أميركية تركية من قيادات عراقية يقودها نائب الرئيس العراقي أسامة النجيفي، تزعم أنّ الجيش العراقي والغارات الأميركية تقتل المدنيّين السنّة. والنجيفي ومجموعته، هم سياسياً تقاطعات تركية سعودية تعمل بالموجّه الآلي من بُعد.
وباستقراء التاريخ، يتّضح فوراً أنّ الإرهاب التكفيري هو الذي أباد مئات الآلاف من المدنيّين في سورية والعراق واليمن ومصر والصومال ودول أخرى، من دون أيّ انتقاد خليجي وتركي وأميركي، بل بدعم من هذه الدول التي اكتفت من 2012 2016 بتسخير وسائل إعلامها لعرض ما يقوم به الإرهاب من قتل وذبح وسبي، وذلك لترويع ما تبقّى.
وكانت تركّز على إسقاط الأنظمة فقط ودعم الإرهاب تمويلاً وتسليحاً، وكان الإرهاب يحتمي بالمدنيين وسط إعجاب سعودي خليجي تركي، ومنتشراً على مساحات تعدّت مئات آلاف الكيلومترات. ولم تتحرّك دول «دموع التماسيح» إلّا… الآن، أي في مرحلة انكفاء الإرهاب. فهل هذه مصادفة أم «نخوة عرب»؟ فإذا كانت على هذا النحو، فلماذا ظهرت الآن وليس في السنين الماضية التي روّع الإرهاب فيها ملايين المدنيّين.
فما هي الخطوات العملية التي تقوم بها الدول الداعمة للإرهاب؟ وكيف تجابهها سورية وحلفاؤها؟
حاولت القوى الإرهابية إحداث خروق في مناطق حماة وأرياف دمشق ومدينة درعا بالتزامن مع انعقاد مؤتمر جنيف، وتولّت وسائل الإعلام الخليجية التركيز على ما أسمته «حماية المدنيّين» لعرقلة تقدّم الجيش السوري، وتتجاهل أنّ الذي يأسر المدنيّين هو التنظيمات الإرهابيّة المموّلة منهم، ولم تنفع هذه التحايلات في تجميد الجيش السوري الذي واصل تقدّمه على أنغام «دموع التماسيح».
فلجأ الحلف التركي السعودي القطري إلى وسائل أخرى، مطلقين حملة «سدّ الفرات» المهدّد بالسقوط واحتمال التسبّب بكوارث إنسانية قد يتضرّر بسببها ملايين السوريّين، واتّهموا قوات التحالف الأميركي والأكراد والطيران الحربي السوري بإصابة السدّ. ما يمكن تقبّله هنا، هو الاتهام الخليجي للدولة السورية بقصف السدّ، وهو اتّهام كاذب بالطبع، لكن ما ليس مفهوماً هو كيف تتّهم دول الخليج وتركيا واشنطن بقصف السدّ، وهي الصديقة والراعية التاريخية لها بموجب معاهدات وأحلاف ومواثيق؟
يبدو أنّ الخلاف بين «الفريقين الصديقين» ليس استراتيجياً بل تكتيكياً، فالسياسة الأميركية التي أحدثت أعطالاً كهربائية وآليّة في وظائف السدّ تريد تهجير نوعين من ساكني المناطق الشرقية والوسطى في سورية: العرب السنّة ومحاولة دفعهم إلى مناطق الدولة السوريّة.. والطريف أنّها تريد دفع الإرهاب إلى البوادي والصحاري قبالة مراكز الجيش السوري لتأمين الظروف الموضوعية لاستمرار القتال بين الطرفين، وتكون بذلك حقّقت أهدافها الأساسيّة التي بدأتها منذ 2011، وهي تقسيم سورية وإنشاء دولة كردية تكون قاعدة أميركية تشرف على الأوضاع في أربعة بلدان ينتشر فيها الكرد، وهي تركيا، سورية، العراق وإيران.
في المقابل، يواصل الجيش السوري زحفه غير عابئ بالمخططات الأميركية التي لا تروق حتى لأصدقاء واشنطن. فتركيا مستعدّة لإعلان حرب إقليمية في حال إعلان منطقة كردية مستقلة في شرق سورية، وربما في وسطها، كما توحي التحركات الأميركية، لأنّها تعتبر أنّها مستهدفة من هذه اللحظة التي تؤدّي فوراً إلى خلق ظروف مناسبة لإعلان منطقة كردية مستقلة في تركيا أيضاً والعراق لاحقاً، وصولاً إلى إيران في أوقات مختلفة.
الرياض من جهتها لا تؤيّد لا الأكراد ولا الأتراك، ولكنّها تعتبر أنّ التحرك الكردي يؤدي إلى استمرار التوتير في سورية ومواصلة استنزاف الدولة السورية، وإبعاد احتمال القضاء على الإرهاب.. هذا الإرهاب الذي تأمل الرياض منه تفتيت العراق وتدمير اليمن وتقسيم سورية، أي التخريب السياسي للمشرق العربي بأسره.
وفي المقابل، يقاتل الجيش السوري الإرهاب ومتفرّعاته على مدى مئات آلاف الكيلومترات المربعة، معتبراً معاركه دفاعاً عن المنطقة العربية بأسرها.
ويلعب الخليج وتركيا لعبة الفتنة السنّية الشيعية في العراق لحماية الإرهاب الذي فتك بالمكوّنات العرقية والطائفية كلها لبلد الرافدين. فما أن يتقدّم الجيش العراقي حتى تذرف هذه الدول دموع التماسيح وتطلق صيحات من الإعلام الديماغوجي لتعلن أنّ «السنّة في خطر» من الاجتياحات الشيعية.
ويتكرّر السيناريو السوري في العراق باتهام التحالف الأميركي بقصف المدنيّين في مدينة الموصل، وهؤلاء يعرفون أنّ الذي يفتك بالمدنيّين ويسبي نساءهم ويقتل أطفالهم ويحتمي بهم هو تلك الفئات الإرهابية المموّلة من قِبلهم. فما هي أسباب الخلاف الأميركي الخليجي التركي على موضوع التعامل مع الإرهاب؟
… الخلاف على التوقيت فقط: تركيا لا توافق على استعمال الكرد وسيلة لاستنزاف دولتي العراق وسورية، وتفضّل دوراً مباشراً لقوّاتها يحقّق لها هدفين اثنين: منع تشكّل دولة كردية، وتحقيقها أدواراً سياسية في المنطقة.. لذلك هناك خلاف أميركي كردي.
أمّا الخلاف الأميركي السعودي، فهو على توقيت القضاء على الإرهاب فقط. إدارة ترامب الجديدة تريد إنهاء القسم الأكبر من دور الإرهاب أنّه تطاول إلى أوروبا وأميركا وأستراليا من جهة، ولأنّها تعتبر أنّ ضربه مع استعمال الكرد يؤدّي إلى تقسيم بلاد الشام والعراق..
إلّا أنّ السعودية الموافقة على هذه الخطة، تريد إرجاءها لبعض الوقت كي تُنهي الحوثيّين في اليمن والحراك السلمي البحريني، فهي تخشى أن ينتهي الإرهاب من دون تمكّنها من الإمساك النهائي بالبلدان المحاذية لها.
لذلك تتضح أهمية أدوار الجيوش الوطنية في سورية والعراق في الدفاع عن كامل المشرق العربي الموضوع تحت رحمة السكين الأميركية التي تقصّ وتربط حسب مصالحها..
اليمن بدوره يتعرّض للتدمير والقتل والتجويع وسط تورّط أميركي إلى جانب الغزو السعودي، وموافقة فرنسية بريطانية، وغضّ طرف روسي صيني. إنّه الائتمار الدولي المشابه لمراحل سايكس بيكو، التي فضحت بنودها الثورة البلشفية في روسيا عندما أرسلت في 1917 مبعوثاً إلى الشريف حسين بن علي يخبره باتجاه الاتفاقية إلى تقسيم المشرق العربي. وكانت روسيا شريكاً مستفيداً مع بريطانيا من الاتفاقية، إلّا أنّها انسحبت منها بعد إعلان ثورتها وأخبرت المتضرّرين العرب الذين لم يصدّقوا في حينه.
لذلك، يظهر الإصرار الأميركي السعودي على استعمار اليمن بشكل مباشر، فهناك إنزالات عسكرية أميركية في مناطقه الجنوبية والشمالية تشارك مع الجيشين السعودي والإماراتي في تدمير اليمن الذي يدفع ثمن إصراره على حريّته من جهة، واستراتيجيّة موقعه من جهة ثانية.
فهل من الضروري أن ننتظر ثورة بلشفية جديدة؟ يبدو أنّ العودة الروسية إلى بلاد الشام من شأنها التعجيل في دور روسي مرتقب في اليمن والعراق، إلى جانب دور الجيوش والقوى الوطنية فيهما.
ويلعب الإعلام الخليجي الأدوار نفسها التي يؤدّيها في سورية والعراق، مواصلاً اتّهاماته لأنصار الله والجيش اليمني باستهداف المدنيّين.
لذلك يتّضح أنّ الخليج يدعم الإرهاب في «سايكس بيكو جديد» يريد تفجير المنطقة، فيما تقوم الجيوش وعلى رأسها الجيش السوري بالدفاع عن المشرق العربي، انطلاقاً من الساحة السورية التي تُعتبر الحصن الأول والأخير الذي يمكن المراهنة عليه بقواه وتحالفاته، وذلك لإعادة القانون إلى علاقات دولية مسحوقة بالدبابات الأميركية والإرهاب الوهابي السعودي، وبغضّ طرف من بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي المزعوم.