د. صابر فلحوط
أربعة قرون من الاستعباد التركي الأخطر إجراماً، وإظلاماً في التاريخ تبعه ربع قرن من الاستعمار الفرنسي المدجج بأنياب الأفاعي، حيث تم في هذين -الاستعمارين- الإطباق المحكم على العقل، والوجدان، والإرادة الوطنية والقومية، فذاق شعبنا من صنوف القهر، والقمع، والتجهيل، والتقتيل مالا مثيل له في التاريخ. وفي أجواء شهدت التماعة بروق الأمل بعصر جديد يطل على المنطقة العربية بعامة، وسورية بخاصة، يتنفس فيه المواطنون نسائم القدرة على إعمال الفكر، والتطلع إلى الحرية والثقافة، وبناء الوعي الذاتي والوطني، والاستفادة من موجة التحديث والتطوير التي شهدتها المجتمعات الأوروبية التي قطعت شوطاً في التغيير، وعلمانية المجتمع في جميع ميادينه، وبعد حربين عالميتين طاحنتين، استهلكتا ملايين الشهداء، كما شهدتا ولادة نظريات كونية في محيط الاشتراكية العلمية، والرأسمالية العالمية، وتزاحم الصراعات الطبقية، وفي مرحلة النضال الوطني الذي خاضه شعبنا ضد الاستعمار الفرنسي الذي قسم سورية إلى دويلات ليسهل عليه قضمها وابتلاعها، وقيام جماهير شعبنا بالعديد من الانتفاضات التي توجت بالثورة السورية الكبرى عام 1925، بقيادة المناضل سلطان باشا الأطرش ورفاقه في مختلف مفاصل الوطن وسوحه ساحلاً وجبلاً وبادية، والذي توج بالجلاء الأغر في 17/4/1946، في هذه الأجواء، التي كانت تمور بالنظريات، والإيديولوجيات، والأفكار، والعقائد متطلعة إلى ولادة نهج جديد، وإنسان على مقاس التضحيات التي قدمها شعبنا من أجل تعمير ما تهدم من حصون العقل والوجدان لاستعادة جوانب العظمة في تاريخ الأمة العربية الممثلة برسالتها الخالدة، وحيوتها الدائمة، نحو غدٍ يليق بالعروبة الحضارية وبالأمة التي كانت أنبل الأمم وأعظمها روحاً وفكراً وسمواً وإبداعاً.
وقد انبرى، للنهوض بهذه المهمة الجليلة والخلاقة، نخبة من الآباء الأوائل “للبعث”، والذين تلاقت أفكارهم، بعدما تلاقحت مع تطلعات جماهير الأمة لبناء غدها القومي المنشود، واستثمار الأفكار الحزبية والسياسية التي سبقت ميلاد البعث، بدءاً بالإرهاصات العروبية والثورية للمناضل عبد الرحمن الكواكبي في كتابيه (طبائع الاستبداد، وأم القرى)، ومروراً بالشيخ اليازجي القائل في وجه الاستعمار العثماني: (تنبّهوا، واستفيقوا أيها العرب.. فقد طغى السيل حتى غاصت الركب) وانتهاء بالمفكر ساطع الحصري وعصبة العمل القومي.
وتلاقت إرادة القادة المؤسسين للحزب على انعقاد المؤتمر الأول للبعث في السابع من نيسان 1947 في مقهى الروضة جانب البرلمان السوري، حيث كان إعلان الفكرة تنظيماً قومياً عربياً يستهدف وحدة الأمة، وخلود رسالتها، وتعزيز هيبتها وهويتها العروبية. وقد تصادم -البعث العربي- بعيد ميلاده مع الدكتاتوريات العسكرية التي حاولت سرقة انتصارات الجلاء، ومصادرة إنجازات الشهداء، والمناضلين من أبطال الثورة السورية الكبرى. وقد دخل قادة البعث السجون جراء ثباتهم على مبادئهم. وقد أسهم شباب البعث في الحرب العربية ضد الكيان الصهيوني عام 1948 عبر جيش الإنقاذ لتحرير فلسطين، وقدموا الشهداء الغوالي من الرفاق حتى أصبح -البعث- يلقب في الشارع العربي بـ -حزب فلسطين-.
وقد اشتد عود الحزب، واتسعت قاعدته الشعبية بعد اندماجه مع الحزب الاشتراكي عام 1952، حيث خاض بعدها الانتخابات البرلمانية، وحقق نجاحاً كاسحاً في مواجهة -الإخوان المسلمين- وأصبح الحزب الأول الذي يقود الشارع في سورية، وتلتف حوله الجماهير باعتباره حزب العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين والعسكريين العقائديين وصغار الكسبة، وجميع شرفاء الأمة.. وقد تميز الحزب بالرغم من يفاعته وشبابه في الخمسينيات بالتصدي للأحلاف المشبوهة والمشاريع الاستعمارية، مثل حلف بغداد ومشروع ايزنهاور، كما تصدر النضال ضد الحشود التركية على حدود سورية الشمالية، واستنفار الشارع وتحشيده إلى جانب مصر في معركتها لتأميم قناة السويس /1956/ ومواجهة العدوان الثلاثي (الصهيوني – البريطاني – الفرنسي). كما تقدم الحزب الصفوف للدعوة للوحدة مع مصر بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، حيث قدم -البعث- أعظم تضحية في تاريخ الأحزاب العقائدية وهي حل التنظيم في القطر السوري كرمى لعيني الوحدة، وكان الضامن لهذا شعب مصر العربي وزعيمه عبد الناصر.
ولأن الوحدة كانت الأمل والمرتجى لكل عروبي، ولأنها أبرز وأبهج عناوين الكرامة والعزة، وأمنع حصون الأمة لمواجهة الصهيونية الإرهابية والرجعية الحاقدة والمتخلفة، فقد تآمر أعداؤها من البيت الأبيض خلف البحار، إلى البيوت السود الغميسة بالنفط والحقد والظلامية.
وبعدما أجهز الانفصال على آمال شعبنا في الجمهورية العربية المتحدة، لم يكتف شباب ـ البعث ـ وشيوخه بذرف الدموع، وتجرع الآهات، بل انبروا سريعاً لإعادة التنظيم، وتفجير ثورة الثامن من آذار /1963/ وكان مفتاح التنظيم، وكلمة السر في هذه الثورة القائد المؤسس لسورية الحديثة الرئيس الراحل حافظ الأسد. وقد كانت البداية من القاهرة حيث تواجد مجموعة من الضباط البعثيين والعروبيين الذين كانوا قد نقلوا خلال -الوحدة- من الإقليم الشمالي إلى الإقليم الجنوبي في الجمهورية العربية المتحدة. ولعل أبرز قرارات الحزب التنظيمية، بعد ثورة آذار، اعتبار ممارسة المقاومة والعمل الفدائي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة شرطاً لأي مواطن ليصبح عضواً في الحزب.
وفي سبيل تجديد الحزب، وتطوير الثورة فكراً ومواقف ومنطلقات، كانت الحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسس، والتي نقلت البلاد من الشرعية الثورية إلىالشرعية الدستورية، وحققت من الاستقرار والنهوض والمنعة على جميع المستويات ما دخل تاريخ سورية والوطن العربي من أرحب أبوابه، كما كان من أعظم إنجازات التصحيح، والعروبة عموماً، خوض حرب تشرين التحريرية في مواجهة الكيان الصهيوني، وفتح الطريق واسعاً أمام جميع المقاومات التي نهجت المقاومة سبيلاً لتحرير الأرض و استعادة الحقوق في فلسطين، إضافة إلى استعادة الحزب بقوة إلى الحاضنة العربية والقيام بخطوات وحدوية مع عدد من الأقطار العربية التي مكنتها ظروفها من إقامة أي شكل من أشكال العمل الوحدوي، والذي كان من أبرزها اتحاد الجمهوريات العربي الذي خيضت معارك حرب تشرين تحت رايته.. كما استطاع الحزب أن يكون أنموذجاً في انتشال العمل السياسي الحزبي من المخابئ والأقبية تحت الأرض الى أشعة الشمس في الساحات الاجتماعية، حيث كانت الجبهة الوطنية التقدمية لتمثل ائتلاف الأحزاب السياسية في سورية ذات التوجه القومي والنهج الوطني والعروبي.. وتمكن الحزب بعد التصحيح من إيلاء المنظمات الشعبية والنقابات المهنية اهتماماً مميزاً في مسيرة وبناء المجتمع العربي السوري، باعتبارها رديفاً يعتد به، ويعتمد عليه في دعم التنظيم الحزبي في البلد.
وفي الذكرى السبعين لميلاد – البعث – ومسيرته العروبية الحضارية المؤمنة بعظمة الإنسان العربي، ودوره الفاعل في مسار البشرية تفاعلاً، وعطاءً، وإبداعاً، وتنوعاً.. من حق البعثي أن يفخر أن حزبه يمثل النظرية الأخلد والأرقى، والطامحة لبناء الذات القومية على أسس من الحداثة والمعاصرة التي تقدر الماضي، وتقدس مافيه من قيم عقدت قرانها مع الخلود، لأنها تتساوق مع أرفع مافي الإنسان من سجايا، ومزايا، وصفات تليق به كأعظم وأكرم المخلوقات على الأرض.. ويكفي أن نعدد أسماء الأحزاب والحركات التي ولدت بعد – البعث – وغادرت الساح الى عالم الغياب الأبدي، لأنها لم تجد الحاضن الشعبي الذي هو الأساس في استمرار وقوة أي تنظيم، لندرك عظمة – البعث – وعمق جذوره في تربة الناس وقلوبهم وعقولهم. ولعل استمرار مسيرة البعث وهي تشق طريقها نحو بناء العروبة الحضارية ومجتمعها القومي في موجة ازدحام الأيديولوجيات والنظريات، يرجع الى كونها لم تستلهم فكر البعث من مكتبة معلبة أو تقلد نظرية سبقتها أو ولدت بعدها، بل استقت منطلقاتها النظرية من تاريخ عاشته أجيال الأمة العربية بآلامه وآماله وأحلامه وانكساراته وانتصاراته.
واليوم يتصدى شعبنا في سورية العربية لأخطر حرب كونية تتمثل بتحالف أكثر من مئة دولة تستخدم عصابات من وحوش الإرهاب التكفيري الوهابي – الرجعي، ويتقدم صفوف الفداء، في هذه الحرب الطاحنة جيشنا العقائدي البطل الذي ارتوى من ينابيع البعث الفكرية وآمن بأمته العربية الواحدة، ورسالتها الخالدة، ودورها الحضاري في مسيرة الشعوب.
إن الانتصارات التي حققها أبطال قواتنا المسلحة مسنودين بالأشقاء في ايران والأصدقاء في روسيا وشركاء الدم في المقاومة الوطنية اللبنانية وجمع شرفاء العروبة، تؤكد أننا أصبحنا في الهزيع الأخير من ليل هذه الحرب التي سيسهم انتصارنا فيها بتغيير النظام الدولي والقضاء الى الأبد على الأحادية القطبية كي يولد فجر جديد للبشرية يستهدف تعزيز كرامة الشعوب وحرية الإنسان.
تحية لأرواح الرفاق الأوائل من الحرس القديم، والذين كانوا صخور الأساس في بناء حزبنا الشامخ، وتحية لشعبنا العظيم الذي احتضن – البعث – منذ ميلاده فكراً وأجيالاً وطموحات.
وتحية الإجلال لأرواح شهداء شعبنا وجيشنا، والذين تتفتح جروحهم ياسمين وشقائق نعمان في نيسان – البعث – على الدوام.
وكل التحايا لقيادة شعبنا وحزبنا وجيشنا المفولذة الأعصاب بالسداد والرشاد والحكمة في معارك السياسة والسلاح.