محمد عبيد:
كان من الممكن أن تشكل محادثات «جنيف5» غير المباشرة التي أرست عناوين مبدئية لإطلاق حوار سوري سوري، أرضية صالحة ومقبولة لإنجاز اتفاق حول رؤية سياسية سورية بحتة لحل الأزمة القائمة في سورية دون الوقوف عند موضوع تراتبية الأولويات، وخصوصاً أن وفد الشرعية السورية قد أبدى مرونة غير مسبوقة في الانفتاح على مناقشة جميع الطروحات بما فيها تلك التي تضمنت نقاطاً كانت إلى وقت قريب من «المحرمات» الوطنية مثل موضوع الحُكم أو ما يرغبون بتسميته «الانتقال السياسي»!
وكان من الممكن أيضاً أن تقوم ما يسمى «المعارضة» على اختلاف هيئاتها ومنصاتها بالاستثمار في هذه المرونة، من خلال مشاركتها الشعب السوري الموقف الرافض للإرهاب وإدانة اعتداءاته التي طالت الآمنين في العاصمة دمشق وأهالي قرى ريف حماه الشمالي بشكل مفاجئ، والتي تزامنت مع انطلاق جولة المحادثات، ما طرح علامات استفهام كثيرة حول الأهداف الكامنة خلف هذه الاعتداءات.
يبدو أن هذه «المعارضة»، المستولدة في كنف أعداء سورية بدءاً من واشنطن ولندن وصولاً إلى الرياض ومروراً بأنقرة والدوحة وغيرها من عواصم العدوان، يبدو أنها لم تقتنع أن اجترار الأساليب الدموية للتأثير على مسار التفاوض في كل مرة أو الاشتباه بأن إسالة دم الشعب السوري سيدفع بهذا الشعب أو بالدولة إلى الرضوخ لمطالب رعاة «المعارضة» والإرهابيين معاً، وتسليم سورية لهم لتقسيمها وتقاسمها مناطق نفوذ تؤمن مصالح هؤلاء الرعاة وتُسقِط موقع سورية القومي في الصراع ضد العدو الإسرائيلي والمشاريع الأميركية.
لذا كان من الطبيعي ألا تستجيب هذه «المعارضة» لطلب إدانة الإجرام الإرهابي بحق الشعب السوري لسببين: الأول، أن الإدانة تستوجب أخذ موافقة الرعاة وهو أمر مستحيل باعتبار أن هؤلاء الرعاة هم من حركوا الإرهابيين. والثاني، أنه من المفترض أن يشكل هذا الإجرام سنداً ميدانياً للمعارضة الجالسة حول طاولة التفاوض والتي تعتقد أنها بذلك تحقق شكلاً ما من التوازن في مقابل إنجازات الجيش العربي السوري وحلفائه في أكثر من ميدان.
مرة جديدة، لم تنجح ما يسمى «المعارضة» في انتزاع قبول الشرعية السورية بها كشريك حر الإرادة يمكن التفاهم معه لوضع مشروع حل سياسي ينهي الأزمة في سورية بشروط السوريين وحدهم، والأهم أنها وهي على أبواب مغادرة جنيف فقدت دعم راعيها الأول الولايات المتحدة الأميركية حول طرح «الحُكم» أو «الانتقال السياسي» بعدما تعددت تصريحات المسؤولين الأميركيين المتراجعة عن فكرة الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، كما يوصفونها، وترك الأمر لخيار الشعب السوري.
تبدو المشكلة الآن التي ستواجه فريق الأمم المتحدة أن «جنيف5» انفض دون الاتفاق على أجندة زمنية تعيد الأطراف المعنية إلى أروقة المحادثات غير المباشرة، وهو أمرٌ سيفتح الآفاق واسعة أمام الميدان ليعيد رسم شكل طاولة التفاوض ويحدد زمنه وتوازناته.
بات من الواضح أن جولات جنيف صارت تفاوضاً من أجل التفاوض، أو أنها حلقات عصف سياسي تتبدل عناوينها وفق تبدل موازين القوى بين الشرعية السورية وحلفائها من جهة، والمعارضة والمجموعات الإرهابية ورعاتهم من جهة أخرى.
وبات جلياً أيضاً أن جنيف باتت مساراً منفصلاً عن آليات «أستانا» التي ينتظر أن يُستأنف العمل بها في أوائل أيار المقبل لاستكمال فك النزاع في بعض مناطق قتال مفصلية وإتمام مصالحات وتسويات تعيد الأمن والاستقرار في ظل سلطة الشرعية إلى مناطق أخرى.