ترامب.. تصدير الأزمات الداخلية مجدداً

 

بسام هاشم :

يبدو أن المنطقة على مشارف جولة جديدة من سوء الفهم الباهظ الثمن، وأن أصحاب الرهانات الفاشلة إياهم لا يزالون يرفضون أخذ العبرة وتعلّم الدرس: أوهام آل سعود لا تستطيع مغادرة دبلوماسية الشيكات المفتوحة، وعجز الأردوغانيين يدفعهم دائماً للزج بأنفسهم في أتون سياسة انتحارية قائمة على الاستمرار في الهرب إلى الأمام، أما العرش الأردني فهو في حالة استنفار دائم لتلقف أدنى فرصة للاندراج على قوائم موظفي وأتباع البيت الأبيض، فيما لا يشبع الصيارفة الفرنسيون من “رفاق” هولاند من استجرار الأموال. الجوقة نفسها تصدح اليوم على ايقاعات تصريحات ترامب، و”كيماوي” خان شيخون، و”ضربة” الشعيرات. الحماس يهيّج الجميع في باريس وعمان وأنقرة والرياض، و”النصرة” و”داعش” مطمئنتان إلى الدفء الجديد الذي تشيعه العودة للحديث بصوت عال عن “أولوية” و”أسبقية” و”ضرورة” و”حتمية” رحيل “النظام”.. إلى آخر هذه المعجمية المدرسية المرهقة والمهترئة والمثيرة للشفقة من اختراعات “خبراء” وموظفي الدرجة الثالثة في الخارجية الأمريكية. ولكن المشكلة حقاً هي أن هؤلاء جميعاً ينتظرون ترامب “المخلّص” ويتوسّمون فيه خشبة الخلاص، وهم يغالبون أنفسهم محاولين التعاطي مع ما يدمدم به، على عجل، في مكالماته الهاتفية، وما توحي به تصريحاته المقتضبة والمشبعة بـ “التعاطف” والانفعال السريع، على أنه حقائق نهائية لا رجعة فيها.. كلهم يترقّب المعجزة التي تنتشلهم من الواقع المزمن للخيبة والإحباط، وكلهم يدغدغهم الأمل بأن يتجسّد الجنون أخيراً على شكل استراتيجية عملية تُحدث الانفجار العظيم “البيغ بانغ”.

لا يتعب هؤلاء من التكرار الببغاوي، ولا يكفون عن الدوران حول الذات، وهم يحشدون اليوم لاستحصال “ضربة” جديدة تكسر أحادية الشعيرات. فجأة قرّروا أن الفرصة مهيأة للعودة إلى الاسطوانة المشروخة التي تآكلت بفعل الحقائق السياسية والميدانية المستجدّة التي حفرت مساراً نهائياً ومختلفاً تماماً لتوجهات الأحداث، وفجأة تعالت أصواتهم التي التزمت، لفترة طويلة ماضية، نبرة واطئة من الواقعية المرغمة والاستجدائية المبطّنة في الخفاء. بلى، ولكن على ترامب أن ينجز استعراضات قوة شاقة وكثيرة، ولربما طويلة ومحكومة بالفشل، قبل أن يكرّس الانطباع بأنه “رئيس قوي” وسط طبقة سياسية أمريكية متأهبة للتمرّد وجمهور أمريكي متضارب على حافة العصيان، وهو بالكاد يستطيع – ولن يستطيع – في الوقت نفسه، تحمّل أعباء انتقال سلطوي يصارع الزمن ويجازف بالانفتاح على أفدح المخاطر والارتدادات الأمنية والسياسية والاجتماعية في مملكة العائلة من آل سعود إلى آل سلمان؛ ولا مجاراة المشروع الأردوغاني في جموحه لاحتكار الحياة السياسية وتنصيب حكم الفرد وإلغاء دور المؤسسات عبر موجات متسلسلة ودورية من الاستفتاءات المعلّبة والفرمانات الرئاسية الممهورة بخاتم سلطان والاعتقالات الجماعية المدبّرة على وقع الأزمات؛ ولا انتشال العرش “الهاشمي” من الحلقة المُفرغة من العجز المالي والانكماش الاقتصادي واتساع دائرة الفقر والنهب، من خلال التنقّل الدوري بقاعدة النظام بين العشائر والإخوان المسلمين والبرجوازية الموالية للغرب، وعبر محاولة شراء الولاءات السياسية والاجتماعية بالاعتماد على الوصفات والقروض والمساعدات الموعودة – والمشروطة – لصندوق النقد الدولي والمشيخات الخليجية، وتعميق الشراكة “المتكافئة” مع “إسرائيل”، فيما تستعد المملكة لعودة “أبنائها الجهاديين” من قادة “داعش” و”النصرة” مع اقتراب هزيمتهم في سورية. عدا عن ذلك، فقد لا يستطيع الرئيس الأمريكي الجديد – ولن يستطيع – أن يبقي فرنسا هولاند (ومن بعده ماكرون ربما!) على مسار القوة العظمى التقليدية “الرابحة”، حتى ولو كان هناك من يدبّر خفية لإيصال عميل أمريكي إلى الإليزيه، وحتى لو تنازلت الإدارة الأمريكية الجديدة بحيث تقبل أن تترك لقادة الجمهورية الخامسة عظمة من رميم الأرصدة الخليجية التي يجب استنزافها كاملة لقاء مشتريات الأسلحة، فترامب تاجر قبل كل شيء، وهكذا صنّف مدرسته السياسية لدى وصوله إلى البيت الأبيض.

المفارقة الماثلة أمامنا اليوم هي أن أطراف هذا الرباعي الأبدي تخوض اليوم صراعاً شرساً في محاولة منها لاستعارة مظاهر القوة من رئيس يجهد لتكريس زعامته، ومن قوة عظمى تتحسس عوامل تراجعها. يحاولون هذه المرة الزج بترامب في صلب أجنداتهم الداخلية، كما كانوا زجّوا بإرهابيي إقطاعاتهم والعالم كله في الحرب على سورية، ودائماً هي الحرب بالوكالة التي مارسها أوباما بهم، ويتذاكون الآن في محاولة لقلب الأدوار وتوريط ترامب المجنون والأحمق في مغامراتهم.

بعد ستة أعوام على “الربيع العربي” المسروق والمختطف، تتجمّع في الأفق مؤشرات الربيع الحقيقي الذي سيبدأ مع الإعلان عن انتصار سورية، ولكننا، إلى حد ما، إزاء المعطيات المدرسية ذاتها: هناك من يظن أن بوسعه مصادرة الحقائق الداهمة بالعمل على تصدير أزمته الداخلية.

اخبار الاتحاد