فصل من كتاب: “أمراؤنا الأعزاء جداً” للصحفيين الفرنسيين كريستيان شيسنو وجورج مالبرونو
ترجمة: د. غسان السيد
كل شيء بدأ في زيارة إلى ضفاف النيل. في شهر أيار 2015، التقت مارين لوبن رسمياً، في القاهرة، رئيس الوزراء المصري، ومحمد الطيب الإمام الأكبر لجامعة الأزهر المشهورة، وبطريرك الأقباط تراوضوس الثاني. شاركت زعيمة “الجبهة الوطنية”، دون أي تردد، السلطات المصرية في موقفها المعادي للإسلاميين، خاصة أن السلطات المصرية كانت قد دخلت في صراع عنيف مع الإخوان المسلمين منذ الانقلاب العسكري ضد الإسلامي محمد مرسي في صيف 2013. جرت اللقاءات الأولى بصورة جيدة، مثلما ذكرت مجلة “فالور أكتويل – القيم الحالية”، والتي أرسلت صحفياً منها لمرافقة مارين لوبن. ولكن المجلة أغفلت الإشارة إلى أن السيدة لوبن التقت سراً رئيس أجهزة المخابرات خالد فوزي، والتقت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شخصياً، مقوض حكم الإسلاميين” (1) (يقول أحد المقربين من مارين لوبن: كان ذلك مفاجأة. لم يكن ذلك مبرمجاً، نظر المصريون إلى كيفية سير المحادثات الأولى، وفي النهاية ذهبت مارين إلى القصر الرئاسي). استمر اللقاء مع الرئيس المصري لمدة ساعة ونصف تقريباً، دون وجود أحد من أعضاء الجبهة الوطنية، ولم تقل مارين لوبن شيئاً عن مضمون اللقاء لأعضاء وفدها المرافق. عبر هذه الزيارة لأكبر بلد عربي بعدد السكان (أرادت الجبهة الوطنية أن تظهر أن العالم العربي ليس كتلة واحدة، وأن بعض البلدان، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، من البلدان التي يمكن زيارتها، لأنهما تقفان معنا في حربنا ضد الإسلاميين)، هذا ما يقوله أميريك شوبراد الذي رافقها في زيارتها بوصفه أحد مساعديها. في الواقع، إن الإمارات العربية هي التي مولت رحلة مارين لوبن إلى القاهرة، وهي حليفة النظام المصري، والتي تدعمه مادياً. يؤكد أحد المقربين: “لم تدفع الجبهة الوطنية أجرة الفندق، ولا ثمن تذاكر الطائرة، ولا مصر دفعت”. الإمارات العربية المتحدة، مثل القاهرة، تناهض الحركية الإسلامية، خاصة حركة الإخوان المسلمين، عدوتهما اللدودة. حتى أن الإمارات العربية ذهبت إلى حد إصدار “اللائحة السوداء” للحركات الممنوعة فيها، ومنها حركة الإخوان المسلمين. تشمل القائمة أيضاً داعميهم ومموليهم عبر العالم، بما في ذلك اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا، المقربة من جارتهم ومنافستهم قطر. وتعد منظمة اتحاد الجمعيات الإسلامية في فرنسا العدو اللدود للجبهة الوطنية ورئيستها. يهتم كل أمراء الخليج بالحملات الانتخابية الفرنسية. وفي باريس، يتابع سفراء دول الخليج، أو مكاتبهم للعلاقات العامة، عن قرب، استطلاعات الرأي. إنهم مهتمون بالإعداد للمستقبل، وهم يبحثون عن التواصل مع غالبية المرشحين للرئاسة الأولى. يرفض بعض المرشحين، مثل آلان جوبيه الذي دفع بكل طلبات اللقاء مع السفير السعودي في فرنسا خالد العنقري. ولكن رئيس بلدية بوردو التقى، في النهاية، الأمير محمد بن سلمان على هامش زيارته إلى باريس، في نهاية حزيران 2016، مثلما التقاه نيكولا ساركوزي. بعد أسابيع قليلة، طلب ساركوزي من محمد السادس ملك المغرب أن يرتب له لقاء على انفراد مع الملك سلمان، الذي كان يمضي إجازة في قصره في طنجة. بقيت العلاقات بين الرئيس السابق للجمهورية وبين السعودية متذبذبة. وقد وصفها الملك عبدالله بأنها مثل حصان وثاب. إن طريقة ساركوزي الوقحة، مثل إظهار نعل حذائه خلال أحد الاجتماعات، أزعجت القادة السعوديين. في المقابل، بقي نيكولا ساركوزي صديق أمير قطر الأب، الشيخ حمد (يقول أحد زواره من الفرنسيين: لم يكن يحلف إلّا بـ “ساركو”. وهو يعتبر أن “ساركو” هو رجل الدولة الوحيد في فرنسا)، كما يقول هذا الصديق القديم لحمد. كان الرقم واحد في الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد (2)، هو أيضاً، صديقاً لنيكولا ساركوزي الذي ذهب في مناسبات عديدة إلى أبو ظبي لإلقاء المحاضرات (3). لم يفقد الإماراتيون الرؤيا قط، حتى عندما كانت استطلاعات الرأي، في مواجهة آلان جوبيه، في غير صالحه. هل انتهى؟ هذا ما سأله لأحد المؤلفين أنور غرغش، وزير الدولة للشؤون الخارجية، في نيسان 2016. من المفيد التأكيد أن الأمراء يعرفوننا أكثر مما نعرفهم. إنهم عمليون. تبقى مارين لوبن، بالنسبة إليهم، غير معروفة جيداً. لا يرغب السعوديون والقطريون الآن الالتقاء بها، أما الإماراتيون فإنهم يريدون التعرف على هذه النجمة الصاعدة في السياسة الفرنسية، ويقومون بعملية تأثير بعيداً عن الأضواء، وتمويل زيارتها إلى القاهرة دليل على ذلك. ولكن في خريف 2015، تم التقدم خطوة إضافية. التقى أحد مسؤولي الإمارات سراً مارين لوبن في بيتها الريفي في مونترتو، وهو ملكية خاصة لعائلة لوبن في هضاب سان-كلود. كان المسؤول الإماراتي يريد أن يفتح قناة تواصل مع مارين لوبن (4).
وكما هي الحال مع مصر، فإن مواجهة التيارات الإسلامية، بالإضافة إلى المصالح الفرنسية في أبو ظبي التي تحتوي على قاعدة عسكرية فرنسية، هذا كله قرّب الجبهة الوطنية من الإمارات العربية المتحدة. شرحت لوبن لمضيفها أن حزبها يبحث عن تأسيس سياسة عربية بالتعاون مع بعض البلدان مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، أو روسيا، حيث لا يمكن الشك بموقف هذه البلدان المناهض للتيارات الإسلامية. وبالمناسبة، نصح المسؤول الإمارتي، من جهته، مارين لوبن بالضغط على قطر، وعدم الضغط كثيراً على السعودية الشقيق الأكبر الذي تجد أبو ظبي نفسها مضطرة لمراعاته، في الظاهر على الأقل. يقول أحد المقربين من زعيمة الجبهة الوطنية: “لا تجد مارين لوبن أي مشكلة في مهاجة قطر، لأن ذلك يصيب صديق قطر نيكولا ساركوزي”. بعد أشهر قليلة، فتحت النتائج الانتخابية للجبهة الوطنية عيون دول الخليج على الحقيقة: ستجد مارين لوبن صعوبة في الوصول إلى الحكم دون التحالف مع أحزاب يمينية أخرى. وفجأة توقف هذا العمل السري للإمارات العربية للتأثير في الجبهة الوطنية، على الأقل في الوقت الحالي، لأن التهديد الإرهابي تصاعد في فرنسا، والمخاطر التي يشكلها على نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2017 تبقى حقيقة لا يمكن للشركاء الجدد تجاهلها لفترة طويلة (يلاحظ أحد المقربين من مارين لوبن إن العزلة الحقيقية للجبهة الوطنية بدأت مع الانتخابات المناطقية. قبل ذلك، كانت بعض البلدان قد بدأت بالاعتقاد أن مارين لوبن تمتلك بعض الحظوظ. لو أن الانتخابات المناطقية كانت نتيجتها مختلفة لكانت الإمارات العربية قد استثمرت فيها، بما في ذلك تمويلها). يمكننا أن نكشف أن المسؤول الإماراتي اقترح على مارين لوبن، خلال لقاء مونترتو، أن يمولها بمليون دولار، أو حتى مليونين، من أجل حملتها الانتخابية (يكشف المقرب من مارين: تكوّن لدي انطباع أنه متعود على الحديث بالمال مع رجال السياسة. يضاف إلى ذلك أن لوبن بدت مرتبكة، ولم تعرف بماذا تجيب. قالت وهي تتجنب المسألة: سنرى).
يهاجم برونو لو مير مشيخات الخليج، باستثناء الإمارات العربية المتحدة لعملها ضد الإسلاميين، وقد ابتسم عندما سألناه إذا كانت مشيخات البترول تموّل القادة السياسيين الفرنسيين (يقول لنا المرشح للدورة الأولى لليمين الفرنسي، وهو على شرفة مقر حملته الانتخابية في المنطقة السادسة من باريس: سأروي لكم طرفة. عام 2009، عندما كنت وزيراً للزراعة، كلفت بمرافقة الشيخ حمد أمير قطر لأربع ساعات في باريس. في النهاية، قدم لي هدية ساعة “باتيك فيليب”، مرصعة بالألماس، سعرها خمسة وثمانون ألف يورو. هل تتخيلون، هذا يساوي راتبي سنة كاملة كنائب في البرلمان. لقد وضعتها في صندوق الوزارة، وأعتقد أنها لا تزال موجودة في الصندوق) (5). يعرف الدبلوماسي القديم، ومدير مكتب دومينيك دوفيلبان في وزارة الخارجية، خفايا علاقاتنا مع ممالك الخليج (يعمل قادة هذه الممالك بتملق شديد. وهم في غاية اللطف. يقدمون لك الهدايا. انظر إلى معاصم عدد لابأس به من وزرائنا). ويضحك برونو لومير. وليس فقط الوزراء، فهذا برونو دال مدير Tracfin، وهي منظمة تضم وزراء المالية، ومكلفة بملاحقة الأموال التي تذهب لتمويل الإرهاب، قدمت له ساعة غالية الثمن. يروي الموظف الكبير ما حدث معه في الدوحة، وكان سفير فرنسا إيريك شوفالييه حاضراً: “في آذار 2016، وفي نهاية لقائي مع النائب العام القطري، قال هذا الأخير لمساعده: قدم له ساعته في الفندق. لقد انزعجت وأصبت بالإحراج من هذا التصرف، خاصة أنني شرحت له أن عملي هو تشجيع الشفافية في المؤسسات المالية. عندما عدت إلى الفندق، لم يكن هناك ساعة. من المحتمل أن السفير أوصل الرسالة إلى القطريين. وعلى كل حال كنت سأرفضها”. يفتخر برونو لو مير بأنه لم يزر قطر قط (6). يختم كلامه بملاحظة قاسية: “كان ساركوزي رئيس أكبر حزب سياسي، وكان يعطي محاضرات لمدة خمس وأربعين دقيقة، ويتقاضى مقابلها مئة وخمسة وأربعين ألف يورو. لم يكن يرى في ذلك مشكلة. هل يمكن أن تقبل أي دولة ديمقراطية أخرى أن يقوم رئيس حزب بإلقاء محاضرة في بلد أجنبي، ويتقاضى أموالاً من هذه الدولة نفسها. يوجد نوع من الانحطاط المرتبط بحقيقة أن فرنسا أصبحت فقيرة، ولا تتقاضى الطبقة السياسية ما يكفي من الأجر. لقد أصبحت دول الخليج دجاجة تبيض ذهباً). سخرية التاريخ: تطابقت ملاحظته مع ملاحظة أحد مستشاري أمير قطر السابق الذي التقيناه في الدوحة عام 2012 (يبدو أن الفرنسيين هم الأسهل للشراء). اكتفى هذا المسؤول عن صحيفة بهذه الجملة، ويبدو أنه يعرف كثيراً عن دناءة سياسيينا. كيف يمكن أن يكون الأمر مختلفاً؟ إن قادة قطر يحتفظون إلى اليوم بتسجيلاتهم. لقد رأينا أنهم يعرفون تماماً لمن قدموا المال أو الهدايا. ومن المناسب القول إن سياسيينا ليسوا الوحيدين الذين سقطوا أمام إغراء الـ “رولكس”، والأموال المذلة.
إن هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأمريكية، وعبر المؤسسة التي تحمل اسمها، تلقت أموالاً من قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت.. هذا إذا لم نذكر إلّا ممالك الخليج (7).
بحسب الأرقام التي قدمها موقع مؤسسة كلينتون، فإن الدوحة قدمت للمؤسسة ما بين مليون إلى خمسة ملايين دولار. وكانت المساهمة السعودية أكثر من ذلك، وتراوحت بين عشرة إلى خمسة وعشرين مليون دولار منذ تأسيس هذه المؤسسة عام 1997. من أجل انتخابات تشرين الثاني 2016، وضعت الرياض مبلغاً كبيراً، مثلما يشهد على ذلك إعلان الأمير محمد بن سلمان، ابن الملك سلمان، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة في حزيران 2016. بحسب أقوال نقلتها الوكالة الوطنية الأردنية (بيترا)، أكد الأمير محمد بن سلمان أن السعودية مولت عشرين بالمئة من الحملة الانتخابية للمرشحة الديمقراطية إلى البيت الأبيض. وأضاف رجل المملكة الجديد والقوي: “مع كل الحماس”. صدر تكذيب بعد ذلك لخبر (بيترا)، ولكن ذلك جاء متأخراً. كان الموقع الأمريكي think tank قد أخذ بالعربية أقوال الأمير السعودي. كلف هذا الخطأ محمد بن سلمان أن استقبل استقبالاً فاتراً في واشنطن خلال جولته التي استمرت لثلاثة أسابيع، والتقى خلالها، مع ذلك، جميع من يعدون في الولايات المتحدة في مركز الحكم. ويقال إن العلاقات الأمريكية السعودية سيئة. لقد فهمنا ذلك، حيث لم تتأخر ممالك الخليج في التودد للقادة الجدد للبلدان المهمة، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، أي البلدان التي يمكنها أن تقدم لها حماية من الأخطار المتعددة التي تهدد توازناتها الوطنية الهشة. قالت لنا شخصية قطرية إن المؤسسة السياسية البريطانية هي أيضاً أخذت حصتها من المال، بدءاً من العائلة بلير، خاصة شيري زوجة رئيس الوزراء السابق، وكذلك بعض أعضاء حزب المحافظين. في الانتخابات البرلمانية عام 2015، دعمت الأموال القطرية حملة مرشحي حزب العمال، وزعيم الحزب ميليباند. مع ذلك، كانت استطلاعات الرأي تعطي خصمه دافيد كاميرون الأفضلية. وعندما سألنا: لماذا الاستثمار في الخاسرين، وليس في حزب المحافظين؟ أجاب محدثنا القطري بسخرية: “حصل ذلك”.
الهوامش
1 – تحدثت مجلة أنتليجانس أونلاين عن زيارة مارين لوبن إلى القاهرة دون التطرق للقائها مع الرئيس السيسي.
2 – كان مؤسس الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد والد الشيخ محمد، صديقاً لجاك شيراك الذي شارك في جنازته في كانون الأول 2004.
3 – قال لنا أحد نواب الجمهوريين: “يقوم الرئيس السابق، حالياً، بإلقاء محاضرات لحضور خاص، لكي لا يلفت نظر وسائل الإعلام”.
4 – طلب المؤلفان مقابلة مارين لوبن في 8/ 7/ 2016، ولكنها لم تستجب.
5 – حديث مع المؤلفين في باريس، 12/ 7/ 2016.
6 – لدى برونو لومير دبلوماسية في الخليج تزوده بملاحظات.
7 – يقول روبير جيبس الناطق الرسمي السابق لباراك أوباما في البيت الأبيض إن ارتباطات هذه المؤسسة بالحكومة القطرية، ومع الأنظمة الخليجية الأخرى، أقل ما يقال فيها إنها مزعجة.