جمان بركات :
نتردد كثيراً في قراءة ما يُكتب من لحن لأغنية ظناً منا أننا اكتفينا بسماعها، ولكن عند قراءة ما يكتب ندرك أننا مخطئون، وأن الكثير من الإحساس قد فاتنا، فهل يمكن أن نرى الموسيقا ضمن فعالية “بقعة ضوء1 الموسيقا في الدراما السورية “طاهر مامللي نموذجاً” التي أقامها مشروع مدى الثقافي في المركز الثقافي –أبو رمانة- حيث قدم المحلل الموسيقي جمال سامي عواد قراءة تحليلية لعملين دراميين هما:
“أحمر أحمر” إذ بدأ عواد من شارة المسلسل التي تضمنت ترميزاً بالموسيقا لإطلاق نار وانفجارات وقتل وحوارات ودعوات للتفاوض، وأشار في البداية إلى وجود ثماني تنويعات صوتية غنائية لخمسة مغنين وكورال نسائي ورجالي ومشترك، لذلك كانت الأدوار الغنائية قصيرة جداً ومتلاحقة، وهي تعد تجربة جديدة في الشارات الموسيقية لاحتوائها على عنصر مهم من عناصر المسرح والدراما، بالإضافة إلى تعدد كبير في المقامات، ونقلات مقامية غير مطروقة سابقاً.
في مقدمة الشارة أطلق مامللي رشقة سريعة من الطلقات أشعلت حرباً موسيقية، تحاورت بعنف مع جملة موسيقية حزينة وقلقة بقيت سحابة غبارها في الجزء المنخفض من المقام. والثيمة الأساسية للمقطوعة كانت مع تطاير الشظية في المقطع الثاني التي كانت على نغمة الصبا محمولة على إيقاع (أيوب أو زار)، وغناء المجموعة هنا يهدد بالموت المتمثل في دبابة الإيقاع المتقدم بإصرار وثبات مرعبين.
بعد هذا التمهيد يحدث التهجير الأول، إذ تقوم مجموعة الكمان بإدارة دفة اللحن بقسوة مع انعطافة قوية فيخفف الإيقاع من الضغط ليلائم جو عبارة “الآن نحن خائفان”، ولكن سرعان ما تعود آلة الحرب إلى العمل، بنفس الجملة التي حملت النقلة المقامية السابقة يبدأ المقطع التالي “الآن”، مع نفس الانتقال المقامي، ويحمل المقطع دعوة صريحة وصارخة للحوار والاحتكام للعقل، وتأتي الاستجابة سريعة من المجموعة بتهجير مقامي جديد، ولا تعود الأمور إلى شيء من الانتظام إلا عند الدعوة بالغة الرومانسية للمحاربة بأوراق الورد ويصبح اللحن عبارة عن دندنة مرحة بدون كلمات تشيع جواً من اللهو، وفي المقطع التاسع تتكرر الدعوة إلى الاحتكام للمحبة والحياة، وبعد ذلك نسمع الدعوة بوضوح وهدوء أكثر مع خفوت واضح لأصوات الرصاص والانفجارات، وفي المقطع ما قبل الأخير يعود صراع الحياة والموت للعمل مشكلاً الوصف الأخير للحرب، وتنتهي الشارة بحزن على هيئة ضفيرة بمرافقة الاوركسترا مع توغل شديد في الحزن على مقام الصبا، لتختزل آلام السوريين في حرب مدمرة للحجر والبشر.
“ياسمين عتيق”
وتفردت البيئة الشامية بجانب كبير من الدراما السورية، وللإضاءة على هذه الرؤية قدم جمال سامي عواد رحلة في موسيقا شارة مسلسل “ياسمين عتيق” قائلاً: كان بإمكان مامللي أن يختار موسيقا من التراث الشامي إلا أنه أدهشنا بكلمات الحاضر الغائب محمود درويش وخطفنا إلى أفكار موسيقية جديدة عبر نوتات متأرجحة من الوتريّات تبدأ الشارة بتمايل شجيرة الياسمين بغنج ودلال مع نسمات صوت آلة “القانون”، ويقلع سرب حمام من دمشق العتيقة إلى السماء عبر “تريّولات”، ثم تخفت نبرات الموسيقا المرافقة خجلى من حضور صوت ليندا بيطار الرقيق، مع نبضات منثورة بحب ودراية في الخلفية كحبات نثرها مامللي “لستيتيّات” الجامع الأموي، ويعود الحمام للظهور مرة أخرى في المقطع الثالث مع تكرار الثيمة (في دمشقَ) من قبل المجموعة ولكن بطريقة مختلفة، ثم يعود رنين العذوبة متدحرجاً بنبرات صوت ليندا، ليؤدي لحناً يحاكي لحناً شهيراً لذات القصيدة صنعه مارسيل خليفة، وبهذا يُسجّل لدى مامللي مقاربةً أخرى لألحان معروفة “خايف عليها وضيعة ضايعة”. وبعد أن يكون خدر المتعة قد تغلغل في أرواحنا نستيقظ على ثلاث ضربات إيقاعيّة ووتريّة تقوم بها الأوركسترا مثقلة بصراع بين متعة النوم في المقام السابق ومتعة الرّحلة الموعودة، ليضعنا طاهر مامللي في المركبة التي ستأخذنا شمالاً إلى حلب، عبر طريق يندر سالكوها.
ويضعنا المؤلف في المقطع الخامس أمام نقلة مقامية جديدة على الأذن، منتقلاً من مقام إلى آخر مع تغيير في الإيقاع وبصوت الأداء الغنائيّ من ليندا بيطار إلى عاصم سكّر الّذي يؤدّي مقطعه باقتدارٍ وجمالٍ بالغين، وبعد ذلك يعود المؤلف إلى النمط الذي بدأ به المقطوعة بالرجوع إلى الثيمة، ويختم ختاماً تقليدياً معلناً انتهاء لوحة سمعية بصرية متقنة الصنع، وبالغة الجمال.
الدراما في الموسيقا
“لو أني عرفت أن هذا في موسيقاي لرجعت إليك قبل كل عمل” بهذه الجملة خاطب الموسيقي طاهر مامللي المحلل الموسيقي جمال سامي عواد الذي تحدث عن الموسيقى في الدراما، وبدوره قلب مامللي المفردات ليتحدث عن الدراما في الموسيقى، قائلاً: في ظل غياب مؤسسات ترعى وتنتج الموسيقى كانت الدراما هي حاميتنا كموسيقيين بعد انتشارها السريع في الوطن العربي، وقبل الحرب كانت الشارة الموسيقية مشروعاً ثقافياً حيث كان المؤلف الموسيقي يقدم مشروعه بالاتفاق مع المخرج رغم الاختلاف مع صاحب رأس المال، أما اليوم فقد أصبحت الشارة أداة لترويج العمل الدرامي المحكوم اليوم ضمن ظروف الحرب برأس المال التجاري.
وأضاف صاحب شارة “بقعة ضوء والتغريبة الفلسطينية وضيعة ضايعة” أن نجاح أعماله يعود إلى ارتباطها بمشروع المخرج المرتبط برؤية ثقافية، وبكل أسف يؤكد مامللي أن قناة روتانا نجحت اليوم بتصدير أغانٍ كثيرة لا تمت للقيم الموسيقية بصلة، وأصبح بذلك الموسيقي مضطراً لتأليف موسيقا لهيفاء وهبي وإليسا وغيرهم لإكمال ألبوماتهم، وينهي حديثة متسائلاً: إن معرفة الأجيال الجديدة للإرث الجميل مثل فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين هو آخر همّ أصحاب الشأن الثقافي، وبسبب هذا الإهمال سيكون تراث الموسيقى والغناء للجيل الجديد هيفاء وهبي وإليسا، وهنا يكمن كل الخوف.