سيكون من الصعب على المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الروسي والأميركي أن تفك خيوط الاشتباك التي وصلت تخوم أستنة وربما داخل قاعاتها وهي تغرقها في الأسئلة المحرجة- رغم مشروعيتها- بحثاً عن إجابات تقدم ولو حداً متواضعاً
من الاعتراف بعبثية البحث في تلال القش عن إبرة الحقيقة التائهة التي يستظلم البعض فيها، ويحاول البعض الآخر أن يتاجر أو يبازر في تسريبات تأخذ آستنة كفكرة إلى موضع غير الذي كانت فيه أو بدأت، وتهدد بنسفها رغم كل الجهد المبذول وأحياناً “الخرافي” في افتتاح قاعاتها.
فالجميع متفق على أن ما تحقق في آستنة حتى اللحظة لا يمكن التعويل عليه، وأغلبهم يجزم بأن الحصيلة المتواضعة ناتجة عن المراوغة التركية، وكانت تجارب الجولات الماضية تعيد إنتاج ما هو منتج، وتؤكد ما هو مؤكد، حيث لا يمكن لمن راهن على الإرهاب أن يكون طرفاً فاعلاً في مكافحته أو مواجهته، ولا يمكن الوثوق بكل ما يتلفظ به، فما يمسي عليه يناقض ما يصبح، والعكس هنا بالضرورة صحيح.
يضاف إلى هذا وذاك حروب المشغلين التي تلتهم بنيرانها كل ما تبقى مما يمكن التعويل عليه، أو يصلح للدفع نحو بصيص الأمل الكاذب في نهاية النفق، حيث المحاصصة ليست على أسماء التنظيمات وانتماءاتها المتلونة حسب الحاجة، وإنما أيضاً كمواقع نفوذ وأوراق تفاوض تصلح للمبازرة الرخيصة، أو على الأقل تسمح بحجز مقعد على كرسي افتراضي لا بد من استحضاره في نهاية المطاف.
وتتوازى معه على المسار ذاته تلك “الدوريات المشتركة” باعتبارها النسخة المعدلة من العدوان الأميركي لتكون احتلالاً بالوكالة، والتي تريده أميركا رسائل تهديد مبطنة.. ولعبة مزدوجة على حبال تحالفاتها وأدواتها في المنطقة، حيث ما يصح مع التركي لا ينفع مع السعودي، وما يمكن أن تتحالف به مع الإرهابيين المنظمين رسمياً في لائحة “فانتازيا” الاعتدال الأميركي غير ذاك الذي يتشكل في الغرف السرية وأقبية الاستخبارات وغرف إدارة العمليات الإرهابية وتنسيق جبهات عملها، حيث سيكون من الصعب على أميركا أن تقنع أحداً بأن ما تريده من التركي يحتاج إلى هذه اللعبة المكشوفة، والذريعة هنا ليست كاذبة بل نكتة سمجة تشبه السياسة الأميركية ذاتها وممارساتها الطائشة، وقد تكون أنموذجاً للحروب التي تريد تعميمها في المنطقة والعالم.
ما يتقاطع مع المشهد الميداني يتوافق إلى حد بعيد مع النيات المبيتة التي تتربص بالجولة الحالية من آستنة، بدليل أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الروسي والأميركي والمعلن عنه قبل حصوله، لم يكن بهدف الترويج للجهد الروسي، ولا لتذليل العقبات التي تفتعلها الأدوات الأميركية وذراعها في قاعات جنيف ممثلاً بالنظام التركي، بل لإعادة إنتاج موقف يحاول أن يخفف من تداعيات سلبية التجاهل الأميركي للجهد الروسي، حيث الحاجة الأميركية لتفهم روسي بدأت تتفوق ميدانياً وسياسياً، بعدما أمضت روسيا شهوراً من المحاولة العبثية في جر أميركا إلى الطاولة في آستنة، ويتضح ذلك بصورة جلية في سياق الشرح المسهب لدواعي القلق الأميركي من انفراط قواعد الاشتباك المعمول بها.
من حق أصحاب المبادرة في آستنة ورعاتها الحصريين أن يشعروا بالقلق على الأقل لسببين، أولهما التسريبات المغفلة التي يراد بها الاصطياد في الماء العكر وخلق مضادات هدامة أمام أي خطوة حقيقية، وثانيهما أن المشكلة لم تعد فقط في تلك العقبات والعراقيل التي يصطنعها الأميركي عبر وكلائه، وإنما في سياق الناتج القائم على افتراض النيات المبيتة التي باتت هاجساً فعلياً يحيط بدور ومهمة الأدوات الأميركية وهامشها الوظيفي الضاغط على مستويات وجودها في الكفة الأميركية والخيارات المرة التي تنتظرها، حيث الفارق لم يعد مجرداً من الاستدلال في فهم أبعاد وخبايا ما يجري.
آستنة المشغولة إلى حد بعيد بتفكيك وإبعاد خيوط الاشتباك عن تخومها عبر تحييد عوامل التفجير المصنعة أميركياً أو من خلال نزع فتيلها.. ثمة من يحمّلها أكثر من طاقتها.. وهي لم تعد قادرة على إخفاء ما يضمره الأميركي.. وما يعلنه التركي.. وما يتبجح به السعودي، وما يفكر به الإسرائيلي، وما يتمنع في إعلانه الأردني، والأخطر ما تقترفه التنظيمات الإرهابية التي سيضطر ممثلوها إلى الحضور للمبازرة على طاولة لا يمتلكون حق التمثيل فيها، ومساحات نفوذهم ومراكز محاصصتهم تغرق بدماء الاقتتال البيني لحساب مشغليهم الإقليميين وأجنداتهم المتناقضة!!