د. وفيق إبراهيم
يتدحرج الصراع الدموي بين التنظيمات التكفيرية في سورية من منطقة إلى أخرى، بما يُوحي بوجود أسباب أكبر من مجرّد صراع عصابات على النفوذ، كان يمكن لملتحٍ ينتحل صفة فقيه أن يجد له حلاً بتقاسم الأسلاب والمغانم والسبايا.
المسألة إذن في مكان آخر، وله طابعان اثنان الأول صراع بين الدول الإقليمية الراعية للإرهاب والمتنافسة لحجز أدوار حصريّة لها في مؤتمرات أستانة، المرشّحة للانعقاد أكثر من مرة بمواكبة استكمال الرئيس الأميركي أوباما فريق عمله المشرف على أزمات العالم. أمّا البعد الثاني، فيرتدي ظاهراً شكل خلافات بين قراءات إسلاموية ثلاث، هي الوهابية جيش الإسلام والإخوانية فيلق الرحمن و«جبهة النصرة» القاعدة .
ويبدو أنّ التقاطعات المشتركة بين هذه التنظيمات بدأت تتراجع تحت ضغط نجاح الجيش السوري في تحرير أراضٍ واسعة. الأمر الذي ضيّق مجالات سيطرة الإرهاب، فاشتبكت تنظيماته في ما بينها للإمساك بما تبقّى من مناطق للمحافظة على ما نجا من نفوذ، وبذلك يستطيع داعموها الإقليميون احتكار الدور الأساسي في أيّ مفاوضات مقبلة. وهذه الدول هي تركيا المسنودة من قطر والسعودية، إلى جانب تكوّن دور «إسرائيلي» خطير مرشّح للتحوّل مرتكزاً أساسياً داعماً لتحرّك الإرهابيين في سورية.
هناك سؤال إضافي ينبثق مطالباً بتحديد ماهية الفروق الفقهية بين هذه القراءات الإسلاموية الثلاث. فينكشف على الفور أنّهم مجمعون على وليّ أمر أو مرشد أو خليفة لله في الأرض، يمسكون بأنظمة ديكتاتورية من القرون الوسطى، وترى في ملامح الإمارات والممالك الخليجية نموذجاً للتطوّر والرقي، وتصفّق لتحويل تركيا من ديمقراطية إلى أردوغانية إخونجية تعتقل نحو 300 ألف موظف وعسكري وقاضٍ ومدني.. هؤلاء برأي الإرهاب أفضل الطرق لبلوغ السماء وهماً، وجهنّم حقيقة.
إنّ دخول منظمة أحرار الشام الإرهابية التركية على خط الصراع بإصدار بيان يدين جيش الإسلام السعودي «بالبغي»، هو مؤشر على احتمال توسّع نطاق الحرب السعودية التركية على أكبر من مساحة سورية.
هذه هي التنظيمات التي يؤيدها تحالف غربي من عشرات الدول، تقودها واشنطن عسكرياً منذ سنوات عدّة. والطريف أنّ المنظمات التكفيرية ازدادت نموّاً على وقع هذا التدخل الغربي، وتابعت حركتها من خلال الحدود التركية السورية بإشراف من مخابرات أردوغان والأقمار الاصطناعية الأميركية. ولماذا تقلق طالما أنّ الهاشميين في الأردن مساندون أيضاً لأعمالها ومتورّطون في إرهابها؟
وللتوضيح، فإنّ التوغّل التركي في شمال سورية منح أنقرة صفة الممسك بأوراق المعارضة السورية الإرهابية، مع محاولتها تهشيم «الدويلة الكردية». لكنّ دورها المستجدّ قلّص النفوذ السعودي في المساحات التي يسيطر عليها التكفير في سورية، مستتبعاً ضمور دورها السياسي. فاحتكر أردوغان دور المفاوض الحصري عن المعارضات السورية، مع أتباع إقليميين يمسكون بإطلالات هامشية، لكن لا تأثير لهم في اللعبة الكبرى. وكان بذلك يتقاضى ثمن إمساكه بحدود مع سورية، طولها نحو ألف كيلو متر، ولا تزال تشكّل حتى الآن الرئة الأساسية الوحيدة للإرهاب العالمي نحو بلاد الشام.
لم يعترض السعوديون علناً على الاعتداء التركي، لكنّهم كانوا يتحيّنون الفرص لاستعادة دورهم في سورية، فانتظروا بروز مزيد من التناقض الأميركي التركي ، والتركي الكردي… وبدء تراكم خلافات روسيّة تركية.. وتوجّسوا شرّاً من الإعلان عن بدء أستانة قبل استكمال انقلابهم، لكن المفاجأة المزدوجة حدثت بإنزال أميركي قطع الطريق على التقدّم التركي المتوغّل على مقربة من الطبقة وفي نيّته الوصول إلى الرقة ودير الزور، مانحاً بذلك للكرد حصرية التقدّم نحو مدينة الرقة بالتعاون مع فرقة من النخبة الأميركية المدججة بالسلاح النوعي والعشائر.
أمّا الشق الآخر من المفاجأة فتجسّد بتوغّل عسكري روسي قطع بدوره الطريق بين الكرد والأتراك، فبدا هذا التزامن بالنسبة للسعوديين على شكل تفاهم أميركي روسي هدفه منع أنقرة من التقدّم إلى وسط سورية وشرقها. وأدركوا أنّ شمال حلب وإدلب أصبح منطقة نفوذ تركيّة، وشرق سورية ووسطها للكرد بغطاء أميركي عميق. فماذا يتبقّى لهم لاسترجاع نفوذهم؟ فهذا غير ممكن إلا بوجود التنظيمات الموالية لهم في مساحات من سورية يتحكّمون بها بمفردهم.
لقد اعتبر آل سعود أنّ المنطقة الوحيدة التي بوسعها إعادتهم إلى دور سوري متمكّن هي أرياف دمشق، لأنّ المنطقة الجنوبية حتى حدود درعا تتحضّر غرفة «الموك» الأميركية الهاشمية فيها لإعلانها «منطقة آمنة مزعومة». أمّا التخوم السورية مع الجولان السوري المحتلّ، فهي ملعب «إسرائيلي» كامل تؤدّي فيه «داعش» و«النصرة» أدوار العميل التابع المطبّع للعلاقات مع العدو من دون خجل أو مواربة.
ألم تعتذر «جبهة النصرة» من «إسرائيل» لسقوط قذيفة كانت أطلقتها على الجيش السوري فأصابت أراضي سورية محتلة عن طريق الخطأ؟
هذه هي الظروف التي استدعت حرباً شاملة أعلنها جيش الإسلام السعودي على جبهة النصرة القاعدة وفيلق الرحمن الإخواني التركي ، متمكّناً من الإمساك بمساحات محدودة من أجزاء من الجانب الشرقي من غوطة دمشق. لكنّها مساحات كافية للتمسّك بدور سياسي تؤدّيه الرياض في المؤتمرات المرتقبة حول الأزمة السورية.
وهذه المعارك هي أول الغيث في مسلسل الحروب المتوقّعة بين التنظيمات الإرهابية الموظّفة في خدمة أدوار القوى الإقليمية بأقنعة دينية زائفة لا تخدم إلا سياسات تدمير العالم العربي والإسلامي الجارية على قدم وساق.
وقبل التطرّق إلى الخلافات الفقهية بين المتحاربين التكفيريين، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه التنظيمات تراهن على توصّل «أستانة» إلى وقف ثابت لإطلاق نار مع حظر شامل للطيران الحربي، ما يؤدّي على الفور إلى ولادة إمارات في مناطق المنظمات الإرهابية مع إدارات منفصلة لتلبية الحاجات وأجهزة أمنية للإمساك بها.
فبذلك تتحقق ولادة الكانتونات السورية المستقلّة من دون الإعلان عنها، بواسطة وقف مشبوه لإطلاق النار يمهّد لمشروع تقسيم سورية كما يريده الأميركيون في مراحل لاحقة.
والتأخر في إعلان وقف لإطلاق النار، من شأنه توفير الأسباب لاندلاع اشتباكات عميقة بين التنظيمات الإرهابية على كامل مساحات سورية، إلى جانب تجدّد محتمل للاشتباكات بين الترك والكرد، لأنّ جميع القوى تريد حصة أكبر في المفاوضات المرتقبة، وهذا لا يكون إلا بالسيطرة على مساحات جغرافية أكبر.
ويبدو أنّ أمير قطر الذي يزور السعودية يحمل مشروع معالجة تركية سعودية في إطار تقاسم الأدوار بينهما، ولا سيما أنّهما يدعمان تنظيمات إرهابية واحدة، ولأنهما لا تريدان التناقض مع واشنطن التي تصرّ على تدمير «داعش» و«النصرة» تدريجياً، يطالبان باستبدالهما بجيش الإسلام وأحرار الشام. لذلك يطرح أمير قطر فكرة الحلف بين هذين التنظيمين اللذين لا يختلفان عن المنظمات الإرهابية إلا بالاسم. وهذا ما يعزّز قوة الضغط لدى أنقرة والرياض اتجاه الراعي الأميركي.