د.خلف علي المفتاح
في الحديث المهم للسيد الرئيس بشار الأسد بالاجتماع الموسع للجنة المركزية سلط سيادته الضوء على الفكرة القومية والعروبة كانتماء وليس خياراً وأشار إلى أن مهاجمتها بشكل أو بآخر بقصد أو بغير قصد تكريس لما أفرزته اتفاقية سايكس بيكو
ولا شك أن الإضاءة على هذه المسألة في الوقت الحاضر مسألة غاية في الأهمية فمع مرور الزمن وتطور الأحداث وبروز تحديات جديده تظهر القيمة الحقيقية للفكرة القومية كضرورة وحاجة وليس شعاراً أو حلماً رومانسياً، هذا ما تستدعيه الذاكرة الواعية ولاسيما ان المنطقة تعيش تحديا هوياتي تغذيه تنظيمات إرهابية متطرفة متحالفة تاريخيا مع القوى الاستعمارية ولا شك أن لكل شعب من الشعوب أو أمة من الأمم طموحات وأحلام وقضايا تعمل وتسعى لتحقيقها تعكس إلى حد كبير مشاعر وأحاسيس الغالبية العظمى من أبنائها وهنا يبرز دور القوى السياسية والأحزاب والتنظيمات في إيجاد الظروف والمناخات والوعي والإرادة لتحقيقها أو السعي الدؤوب بهدف الوصول اليها.
لقد مر أكثر من قرن ونصف على ظهور الإرهاصات الأولى للمشروع النهضوي العربي الذي وضع على راس أهدافه تحقيق الوحدة العربية لتكون الأساس القوي والمتين لنهضة عربية شاملة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعلمية وشكلت طروحاته قاسما مشتركا للكثير من النخب الفكرية والسياسية العربية واستلهمها البعض في صياغة رؤى ومشاريع سياسية وبنى حزبية لتكون برنامجها ومشروعها لاستقطاب الجماهير العريضة التي تشكل الحامل الاجتماعي الذي يدفع بها باتجاه أن تتكرس حقيقة قائمة وكائنا حيا وهذا هو شأن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استلهم معظم مبادئه وأهدافه ومشروعه السياسي والأيديولوجي من مضامين المشروع النهضوي العربي ما جعل أهدافه تعكس طموحات ورغبات جماهير واسعة على امتداد الساحة العربية وتتقاطع في مساحات كبيره مع ما تطرحه أحزاب وتيارات ونخب سياسية قومية عربية ولاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين بعد تحرر معظم الأقطار العربية من الاستعمار بأشكاله المختلفة وبروز العامل القومي أساسياً في وعي الجماهير ومشاعرها.
إن ما مهد الطريق لقيام الوحدة أو أي صيغة وحدوية أو اتحادية هو أنها جاءت ملبية لطموحات الشارع العربي بأكثريته ما أكسبها زخما شعبيا واسعا وجعل من الجماهير الواسعة وقوداً وظهيراً لها إضافة إلى توافر الإرادة السياسية لدى القائمين على السلطة السياسية وإيمانهم بتحقيق ذلك وعدم ارتهان قرارهم السياسي للقوى الخارجية وهو ما تفتقر اليه اغلب الأنظمة العربية راهنا واذا كان السؤال كيف فشلت التجارب الوحدوية وهي تمتلك القاعدة الشعبية الواسعة والقيادة الوطنية فهذا يحتاج إلى شرح وتفصيل يتعلق بآليات قيام الوحدة وأسلوب إقامتها وعدم التمرحل في تحقيقها والحاجة للتنظيم السياسي القوي الذي يشكل الحامل والحارس لها ومساحات الحرية التي كان يمكن أن تتحرك في فضائها القوى السياسية المتواجدة على الساحتين الوطنية والقومية والأخذ في الاعتبار طبيعة القوى الفاعلة على المستوى الاقتصادي في تلك البلدان.
إن فشل التجارب الوحدوية ارتبط أيضاً بشكل كبير بالعوامل الخارجية وليس فقط في البعد الداخلي فقد ناصبتها العداء واستهدفتها القوى الاستعمارية وما تمثله من نفوذ على المستوى الداخلي وكذلك العدو الصهيوني والدول الرجعية والتيارات الدينية الراديكالية ولاسيما الإخوان المسلمون ما جعل القوى المدافعة عنها تخوض معارك شرسة على اكثر من جبهة فتقاطعت نقاط ضعف الداخل مع نقاط قوة الخارج ما ساهم في التعجيل بسقوطها كتجارب وليست كفكرة سليمة.
إن نظرة نقدية للتجارب الوحدوية وكل أشكال وصيغ مقاربة الفكرة التي شهدتها الساحة القومية مسألة غاية في الأهمية في ظل الظروف التي تمر بها الأمة العربية حيث يعيد التاريخ نفسه وهذا لا يحول دون إعادة الاعتبار لطرح المفهوم بصيغ وأساليب وآليات مختلفة وهنا لا تستدعى الفكرة إلا لأنها ضرورة وحاجة وليست حلما رومانسيا دغدغ مشاعر الجماهير على أهمية الحلم المشروع وضروراته وموجباته فكل ما يحيط بدولنا وأمتنا له أحلامه التي نراها تتحرك على الأرض وتترك مرتسماتها تضاريس قاتله على جغرافيتنا المأزومة آخذا في الاعتبار أنها تتحرك في مناطق فراغنا القومي والوطني.
إن التحدي الحقيقي الذي يواجه اليوم أمتنا ودولنا ومجتمعاتنا هو ذلك الخطر الوجودي الذي يشكله التحالف العضوي بين القوى الاستعمارية والصهيونية والراديكالية المتطرفة مستهدفة ليس بالفكرة القومية وإنما فكرة الدولة الوطنية وبنيتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية المشكلة لها وهذا يستدعي رداً على المستوى القومي نواته الجماهير العريضة والنخب الفكرية والسياسية وقوى المجتمع الحيه المستندة إلى حامل ثقافي حضاري عابر للخرائط الضيقة التي تشتغل عليها اليوم القوى الظلامية ورديفها وظهيرها الخارجي الممعن قتلاً وتفتيتاً وتشظية ومن هنا تصبح مقاربة المسألة ووضعها على طاولة الحوار والنقاش على المستويين الفكري والسياسي وجدول أعمال الأحزاب والمؤسسات القومية وفي طليعتها حزب البعث العربي الاشتراكي بثقله التاريخي وفلسفته الفكرية الحضارية وإنجازاته أولوية وضرورة ترمي إلى صياغة رؤية جديدة ومتجددة لفكرة الوحدة تسهم في إنتاج وعي جديد لها يأخذ في الاعتبار المعطيات والصيغ والأساليب المناسبة لتحقيقها إضافة إلى الانطلاق من ادراك أهمية أن توضع مصالح أبناء الأمة العربية على تنوعها وغناها الثقافي والاجتماعي في المقام الأول.