د. نضال الصالح
الآن، وبعد نحو خمس سنوات، لا باب الأحمر ولا حمّام نارنج، ومن قبل لا الشيخ صبري مدلل، ولا بيت، ولا ريمة، ولا حلب التي كانت. الآن لا ظهير لي في هذه الحياة غير راتبي الناحل من عملي في مركز البحوث العلمية، وشبه بيت في سطح بناء هرِم، وقليل من الكتب التي لم تبعدني هذه الحرب عن لوثة اللهاث وراءها، فأيّ معنى للحياة وقد كادت الخمسون تقرع بقبضتها الغاشمة على باب الحياة!.
من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ وما الذي تبقّى من العمر لأبدأ؟ حتى لو بدأت، فأيّ شيء يعوّض ما فقدتُ؟ وقبل ذلك ما الذي يعيد إليّ ما تساقط من روحي بخراب الباب، والحمّام، والبيت، وفقْد ريمة؟ ريمة! آه يا ريمة، آه، ليتني لم أكن نجوت من تلك القذيفة التي أطلقها المسلحون على ساحة الجابري عندما كنت أعبرها إلى الجميلية لألتقي الأصدقاء في المقهى الذي كنّا نهرب إليه لنخلّف وراءنا متوالية الحديث عن الدم والدمار والموت كلّ يوم.
الأسئلة تنشب مخالبها في رأسي، بل في خلايا جسدي كلّها، فتلجم قدرتي على الحركة، حتى لا أقوى على مغادرة السرير المتهالك فأطفئ “الليدات” قبل أن تبلغ عتبة الموت، ويعينني ما تبقّى من أنفاسها في الصباح، فأرتّب نفسي قبل أن أغادر البيت.
كانت ليلة من شواظ خانق وأنا أتقلّب على جمر غير كابوس، ما إن كان يبلغ خاتمته الممعنة في وطأتها وقسوتها ونهمها للقتل، قتلي، حتى يبدأ غيره أشدّ وطأة وقسوة ونهماً، وحتى أجدني كمن أحدقت به ذئاب من غير جهة في غابة لا أحد فيها سواي. وبين كابوس وآخر كنت أستيقظ، فأستعيد ما كانت أمي أوصتني به عندما كنت طفلاً، وتطاردني الكوابيس في الليل، أعني أن أتعوّذ بالله من الشيطان، ثمّ أبلّ حنجرتي بقليل من الماء، ثم أقرأ آية الكرسي، فالمعوذتين، وأستعيد ما أحفظ من الأدعية حتى يفتح لي حرّاس مملكة النوم أبوابها من جديد.
أيّ ليلة هذه! أيّ كوابيس! أيّ نهايات لها هذه النهايات التي تتعدّد أشكالها فحسب، ويوحّد القتل بينها! قتلي! لكأنني محكوم بلعنة، بل لعنات، هي شهقة الروح الأخيرة بعد أن تكون الذئاب نهشت جسدي كلّه، ذئاب أعرفها، رأيتها غير مرة في غير مكان ما إنْ أحكم المسلّحون بأنيابهم على غير حيّ من أحياء حلب في ذلك اليوم من رمضان قبل نحو خمس سنوات.
كنت، آخر الليل، بلغت آخر القاع من الرهق والنعاس، ولم يكن بد من أن أستغيث بصوت الشيخ ليعينني على ما تبقى من الليل، ولم يكد الشيخ يصدح بالأغنية التي نعشق، ريمة وأنا: “يا غصين البان”، حتى رأيتني أغطّ في نوم عميق، ثم أجدني في باب الأحمر، ثم أرى ريمة كما رأيتها أول مرة، وهي تضحك لي، ثمّ تحيطني بمطلق ذراعيها، وتغمرني بفيض من القبلات، وبينما أنا أرفل بحرير الحلم سمعت صوت المؤذّن ينادي: حيّ على الحياة.