النظام السعودي.. موجات ارتدادية ثورية

بسام هاشم :البعث

في الشرق الأوسط، نحن بالتأكيد أمام نهاية حقبة. لا يتعلّق الأمر بموجة تهبط لترتفع في إثرها موجة أشد ضخامة واتساعاً، بقدر ما يتعلّق بتموّجات متناثرة قد تكون حالمة وغضّة ورومانسية، حتى الآن، ولكنها تاريخيّة وثوريّة تنهض على انهيارات وانكسارات قائمة. فعلى امتداد المنطقة العربية، تصطدم المسارات السياسية التقليدية المتعارضة فيما يمكن أن نسميه نقطة ذروة، تتجمّع فيها التناقضات والصراعات التاريخية بين التقدميّة والرجعيّة، وبين الاستقلال والتبعيّة، وبين الانغلاق والحداثة، لتفتح وسط هذا الركام الهائل من الرعب والتوحّش والقهر نافذة صغيرة إلى عالم جديد استنفدت فيه الرجعيات العربية، الرسمية، والمؤسساتية التقليدية، طاقتها على الحشد والتأثير والنفوذ، لتتحوّل إلى بؤر فاسدة مرشّحة للتلاشي والتحلّل بفعل تعارضها مع روح العصر وتحت ضغط تناقضاتها الذاتية والبنيوية.

يمكن إسقاط ذلك خاصة على المملكة السعودية. فنظام العائلة/الشركة الحاكم يكاد يشهر إفلاسه السياسي والأيديولوجي والاقتصادي في لحظة ذروة تتداهم فيها الاستحقاقات الداخلية والخارجية في وقت واحد لتفرض تحدّيات لا سابق لها، لا في تاريخ المملكة، ولا حتى في تاريخ الأنظمة السياسية المعاصرة. وقد يكون من العناية الإلهية أن يتخذ التغيير/الانفجار المقبل شكل “ربيع” عربي لطالما كانت السعودية أكبر المستثمرين فيه، أمام رجحان سيناريوهات أخرى أكثر قتامة قد تتخذ شكل انهيارات شاملة وكاملة على شاكلة انهيارات العصور الوسطى والقديمة، حيث التعطّش للانتقام وروح الإبادة سيد الموقف. فالعائلة السعودية الحاكمة التي تقايض اليوم بكل شيء، وعلى كل شيء، تنجرف، للمفارقة، ولربما بمصادفة جهنمية، في أتون مقامرة جماعية عالمية ليس محمد بن سلمان أصغر أبطالها وحسب، بل هو أيضاً أكثرهم تهوّراً وأقلّهم مسؤولية، لا سيما حين “يقف” إلى جانب دونالد ترامب أو تيريزا ماي أو فرانسوا هولاند المرتحل، بكل ما في التقاليد السياسية الأمريكية والبريطانية والفرنسية من تآمرات وابتزازات وخيانات متمادية.

حتى الآن، ترفض المملكة السعودية الاعتراف بالهزيمة المزدوجة في سورية: فشل الحرب بالوكالة عبر المجموعات التكفيرية على الأرض، وانكفاء المد الوهابي، الذي عمل كحامل أيديولوجي للمطامح التوسعية السعودية في المشرق العربي في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق، وأداة في محاولة تفريغ انتصارات محور المقاومة، في مواجهة “إسرائيل”، من بعدها القومي. وحتى الآن، تستنزف السعودية، في اليمن، كل قدراتها الدبلوماسية والعسكرية والمالية في حرب يائسة، ولا نهاية لها، باتت تتخبّط في تداعياتها الكارثية على مستوى الداخل والخارج. أما التحريض ضد إيران، فهو ليس في سياق الصراع على الزعامة الإسلامية، بقدر ما هو محاولة أخيرة ومستميتة لكبح الأنموذج.. أنموذج “الجمهورية” الإسلامية التي توظّف قدراتها لضمان سيادتها واستقلالها بعيداً عن كل أشكال التبعية والحماية الأجنبية.

لقد استهلكت التبعية الخارجية وعقود الحماية الموارد النفطية لمملكة آل سعود على امتداد عقود طويلة ماضية، وبدّدت كل أمل بتحقيق التنمية الاقتصادية. وعلى العكس، فقد وسّعت مساحات الفقر، وعمّقت الاختلالات الاجتماعية، وزادت عجوزات الموازنة، ودفعت أخيراً إلى الاستدانة، فيما ساهمت “الأبوية” المزيفة، والقائمة أصلاً على هرمية عشائرية، في الاحتكار المطلق للسلطة السياسية بدعم من مؤسسة دينية تجتاح كل مفاصل الحياة اليومية، وتلعب دورها بانتظام في تفريغ الأزمات، والالتفاف على الاستعصاءات الداخلية، من خلال تطويع النص الإلهي لخدمة الإرهاب وتصنيع الإرهابيين وتصديرهم إلى الخارج.

اليوم، وفي نهاية قرابة ثمانية عقود من الرهانات المدمّرة والاعتباطية، يجد “فرع سلمان” من الأسرة المالكة نفسه أمام استحقاقات تغيير مفروضة، هذه المرة، من الخارج، غير أنه يقاتل مستميتاً في محاولة لتجييرها لخدمة مآرب وطموحات شخصية. بهذا المعنى، تتحوّل “رؤية 2030” إلى نوع من استدراج عروض للشركات الأمريكية والأوروبية، ويتحوّل التحريض على إيران إلى ارتماء نهائي في الأحضان الإسرائيلية، انطلاقاً من “خبرات” سلمان “الجهادية”، ومن قناعات نجله “الشاب” “المرنة” والانتهازية، بأن التحالف مع “إسرائيل” في بنية عسكرية وأمنية “أطلسية” شرق أوسطية، وتوقيع صفقات السلاح بمبالغ خرافية، ولاعتبارات سياسية استرضائية بحتية، هما ورقة الجوكر التي ستجدد اتفاقية “كوينسي” الحمائية أمام سلالة حكم جديدة، وستدفع الغرب لكي يلقي بكل ثقله خلف “انتقال” هادئ وسلس للسلطة في خضم صراعات ومؤامرات العائلة الحاكمة. غير أن الحرب، الآن، في العوامية، وليست في داخل إيران، كما كان توعد ابن سلمان، وترامب لن يقبل المقايضة، بل سيأخذ مجاناً، ولن يرد بالمثل بل سيسطو على تاجر مفلس.

ولكن أرض الحجاز ونجد أكبر وأقوى من مطامع سلطوية فردية وأنانية، كما أن التحوّلات التاريخية الهائلة التي يشهدها العالم العربي في مرحلة ما بعد هزيمة الوهابية و”داعش” و”النصرة” سوف تنعكس موجات ارتدادية ثورية عاتية لا بد وأن تعصف بكل منطق تصدير الحرب والاستقواء على الأشقاء بالتبعية، وسوف تحاصر مملكة آل سعود كقلعة للرجعية والعمالة، لكي تشق الطريق واسعاً أمام الأجيال العربية الصاعدة المتطلّعة إلى الكرامة والمساواة والعدالة الحقيقية، والتي استوعبت تماماً تجربة المحرقة التي أوقدتها مملكة الظلمة للشباب العربي في لحظة اختطاف فكري وأخلاقي وأيديولوجي.

اخبار الاتحاد