حدود جديدة ترسمها الحروب في المشرق العربي.. إمكانية مستبعدة

أ. د. جورج جبور

مقدمة: سؤال البحث وحدوده وخطته

 

سؤال البحث مطروح يومياً ومن قبل كثيرين: هل ستؤدي الحروب في المشرق إلى رسم حدود جديدة؟. في المشرق حروب واضحة في جوانب منها، غامضة في أخرى. أطرافها لا حصر لهم. يكفي أن نتذكّر أن في سورية قوات مسلحة نظامية معترف بها، وعدد كبير من دول التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، الذي تقوده أمريكا، بالإضافة إلى جماعات مسلحة لها صلات متنوعة بعشرات الدول. وفيها أيضاً، جنود احتلال تفصل بينهم وبين الجنود السوريين قوات دولية. ويعلمنا التاريخ أن الخطوط التي تتوقّف عندها الجيوش هي الحدود المتعارف عليها والمعترف بها للدول.

ترسم الحروب الحدود، إلا أننا، قبل الإجابة عن السؤال الأساس، علينا رسم حدود البحث. الحد الأوضح في العنوان هو المشرق العربي. إنه العراق وبلاد الشام أو (سورية الكبرى)، أو، باختصار دارج لدى البعض، هو (سوراقيا). هل يمتد المشرق العربي ليشمل الخليج والجزيرة واليمن، أي مجمل آسيا العربية؟ ربما!، إلا أنني لن أعالج هنا إلا ما يختص بدول (سوراقيا).

ويكتنف الغموض الزمني تعبير الحروب. أطول حروب المشرق العربي المستمرة هي تلك المقاومة التي ابتدأها الفلسطينيون ضد المستوطنين الصهاينة منذ أواخر القرن التاسع عشر. ثم كانت لدينا – في (سوراقيا) – حروب عديدة حديثة الطابع كحربي العراق وحرب تشرين وحرب لبنان. وكانت لكل من هذه الحروب متضمنات حدودية. إلا أن من المرجح، أننا حين نتحدّث عن الحروب والحدود في المشرق العربي فإنما نقصد بالتعبير الأحداث السورية الأليمة منذ عام 2011. إذن، فالاهتمام بالشأن السوري خاصة حد من حدود البحث.

ما سبق حدان أوجبهما العنوان، ويبقى حدان تنبغي الإشارة إليهما منذ البداية: الحد الأول يتعلّق بمحدودية قدرة الباحث على تغطية جوانب الموضوع كافة، ولاسيما أن لدينا في كل يوم جديد مفاجئ، أما الحد الثاني فيتمثّل في موقع الباحث، وللموقع أثره على الموقف.

ضمن الحدود السابقة رسمت خطة البحث لأتناول، بنظرة إجمالية، قصة حدود الدول في المشرق العربي، ولأقدم بعد ذلك رؤية لمنتجات الحروب في المشرق، ولأتوصل بعد ذلك إلى الجزء الأساس الهادف إلى الدفاع عن وحدة التراب السوري.. ولأننا في عام 2017، عام مئوية وعد بلفور، فقد عالجت في الخاتمة بيان الخارجية البريطانية المنتقد لوعد بلفور، والرافض طلب الاعتذار عنه.

 

حدود الدول في المشرق العربي: نظرة إجمالية

 

الأصل في حدود الدول أنها من رسم الجيوش. وفي كلمة جيوش تكمن قوة الأجنبي في رسم حدود دولة شعب ما. لكل شعب جيشه، وقوة جيشه – في مواجهة جيوش تحتل أراضي ذلك الشعب – ترسم حدود الدولة. في الوضع المثالي ترسم إرادة الشعب، مسلحاً بجيشه، حدود الدولة. إلا أن الواقع على الأرض كثيراً ما يخالف ذلك الوضع المثالي. يخبرنا التاريخ أن حدود كثير من الدول إنما رسمتها إرادات خارجة عن إرادة الشعب. وكثيراً ما ترسم جيوش الآخرين حدود دولة شعب ما بعد أن تهزم جيش شعب تلك الدولة.

ثم إن من الممكن تصنيف الدول بمعيار “طبيعيتها” إلى صنفين يوجدان في المنطقة العربية، ملاحظاً في الوقت نفسه غموضاً في المعيار. ثمة دول ذات طبيعة واضحة متعارف عليها معترف بها، وأخرى ذات طبيعة أقل وضوحاً. لمصر وللمغرب مثلاً وجود راسخ لا يمكن لكثير من الدول العربية أن تضاهيها في رسوخه. وبالطبع لا يحجب الرسوخ إشكالات الحدود. ونعلم أن لكل من الدولتين آنفتي الذكر، وهما من الأكثر رسوخاً عربياً، إشكالات حدود.

ويطول بنا حديث إرادتي الداخل والخارج في موضوع رسم الحدود، وقد يضيع جدوى الحديث إن أحببنا في هذه العجالة استخلاص أحكام صلبة. لكل حكم صلب في هذا الشأن إشكالاته التي تفرض علينا إدخال مرونة أو مرونات في الصياغة. وقد تتبعثر الحكمة في ثنايا التعميمات وتشعيباتها النافية لها. لدينا واقع عياني نقاربه هو الوضع السوري. فماذا تقول لنا النظرة الإجمالية في مسألة حدود الدولة السورية؟.

لم تكن في القرون الأربعة من الحكم العثماني حدود واضحة لامتداد نفوذ المدينة الأولى في بلاد الشام، وهي دمشق. وحين تبلورت ولاية دمشق، بحسب نظام الولايات العثماني، كانت – إلى جانب مدينة دمشق وامتدادها – ولاية حلب. وكان هناك وضع خاص لجبل لبنان الذي لم يكن خالياً بالكلية من تأثير دمشق.

وابتدأ “العهد” الفرنسي بعد استشهاد يوسف العظمة، وزير الدفاع السوري في معركة ميسلون، بتقسيم لذلك الجزء من بلاد الشام الذي وقع تحت الاحتلال الفرنسي. أتاح استشهاد العظمة، في 24/7/ 1920، لفرنسا أن تتصرّف في خلق كيانات كان بعضها موجوداً سابقاً على هيئة أقل وضوحاً. ولد لبنان الكبير في أعقاب معركة ميسلون، وولدت معه كيانات سورية هشة نتج عنها جميعاً تحجيم امتداد دمشق. أما ذلك الجزء من بلاد الشام الذي وقع تحت الحكم الانكليزي، فقد بدأت منذ ذلك الوقت معاناته من تصريح “وعد” بلفور ذي الطابع الديني الواضح فيه. وفي محاولة للتخفيف من أثر مقاومة وعد بلفور، خلق كيان هو شرق الأردن. وكان خلقه من رحم متصرفية درعا التابعة تاريخياً لولاية دمشق. وكان خلقه، دون إخلال بالتصريح – الوعد، من خلال خلو تعبير “وطن قومي” من “ألـ” التعريف. وقد باح لي اللورد كارادون، ذات لقاء في عام 1972، وهو المشتهر بأنه صائغ نص القرار 242، بأنه اعتمد على السابقة البلفورية في عدم وضع “ألـ” التعريف أمام تعبير “أراض محتلة” في النص الأصلي للقرار، وهو النص الانكليزي. وصفت اللورد كارادون بالمشتهر بأنه صائغ القرار لأن جورج براون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، ينسب إلى نفسه، في مذكراته، الفضل في الصياغة النهائية للقرار الشهير الذي ما يزال يحكم بـ “الغموض البناء” تكوين المشرق العربي. وهكذا، فقد حددت الحقوق العربية – أو السورية – “ألا” تعريف بريطانيتان: الأولى جاءت لصالح كبح المشروع الصهيوني، أي – بمعنى ما – لصيانة الحقوق، أي لخلق الأردن مستخلصاً من امتدادية وعد بلفور، بينما جاءت الثانية لتحبط لقاء جنيف في آذار 2000 بين الرئيسين الراحل حافظ الأسد وبيل كلينتون. وبالطبع فمن المستهجن أن تحدد براعة الصياغة – وهي هنا “ألـ” التعريف – حقوقاً لا تنازل عنها بمقتضى القانون الدولي.

في 30 آب، ولدت الدولة اللبنانية بحدودها الحالية. أضيفت إلى لبنان التاريخي الأقضية الأربعة السورية، فولد لبنان الكبير. وفي التاريخ ذاته، ولدت كيانات سورية ما لبثت أن وجدت هويتها الحقيقية في إقامة دولة واحدة هي سورية. وكان من الطبيعي أن يكون لواء اسكندرون ضمن الدولة الواحدة، إلا أن الرغبة في إرضاء تركيا، أملاً في إبعادها عن ألمانيا في حرب قادمة، أقنعت القوى المهيمنة بمنحها اللواء، كما كان منح فلسطين للصهاينة تمهيداً لتحقيق انتصار في حرب قائمة. هكذا دفعت بلاد الشام، من أرضها، ثمن الحربين العالميتين.

قد يتباين ما قلته سابقاً عن تاريخ حدود الدولة السورية التي أرجو أن تشكّل، منذ الآن، هيئة للاحتفال بمئوية تحريرها من الدولة العثمانية؛ قد يتباين في تفاصيل منه مع سرديات أخرى، إلا أن التباين لا بد إلا أن يكون طفيفاً، وأدعو من لا يرى ذلك إلى إثبات وجهة نظره.

ومن جهتي أضيف إلى المتداول الشائع عن تلك الفترة هوامش ثلاثة صغيرة في التاريخ السوري الرسمي، وليست صغيرة بدلالتها الراهنة:

1- خلال ثورة إبراهيم هنانو، عرضت فرنسا على قائدها خلق دولة كردية الطابع العام، عاصمتها حارم، وهو، الكردي، رئيسها. رفض قائلاً: لن يكون ذلك المخلوق دولة. إنه سجن انفرادي.

2- امتدح ساطع الحصري، المفكر القومي العربي، وهو معاصر ذكي لتلك الفترة، قرار المجلس التمثيلي لدولة حلب رفض الكيانية الحلبية والاندماج بدولة دمشق، وقارنه مع انصياع الأردن لفكرة جعله كياناً قائماً بذاته. وبالطبع، علي أن أذكر بالمقابل أن سوريين وطنيين كثراً كانوا يرون في إمارة الأردن، ثم في المملكة، وريثاً شرعياً لحكم فيصل في دمشق.

3- شهد عام 1928 ما يصح أن يوصف بأنه انتخابات نزيهة لمجلس تأسيسي سوري، ولم تكن سورية آنذاك تشمل منطقتي الساحل وجبل العرب. ورد في المادة الثانية من مشروع الدستور تعريف حدود سورية على أنها “البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية”، أي بلاد الشام. عطّلت فرنسا عمل المجلس، ثم حلّته. ثم أعلنت، في عام 1930، دستوراً حذف منه هذا التعريف. بين حل المجلس في عام 1928، وبين صدور دستور 1930، دارت محادثات مطولة بين الوطنيين وبين السلطة الانتدابية من أجل الانتصار على الأزمة التي واجهت الانتداب بسبب إصرار الوطنيين السوريين على نصّ المادة الثانية. قدم الوطنيون تنازلات لم تقبلها فرنسا. وصف هنانو وهاشم الأتاسي، وهما زعيم الكتلة الوطنية ورئيسها، بالتالي، الاقتراحات التسووية الوطنية بأنها “تنازلات تكاد توقعنا بالخيانة”. تمثّلت الخيانة لهما بالتنازل عن وحدة بلاد الشام.

وأسجل هنا، وبحرف أوضح، اقتراحا كثيراً ما دعوت إليه في سورية: أحب أن يكون للدبلوماسية السورية يومها، وأرى أن الموعد الأفضل هو 9 آذار 1920. في ذلك اليوم وردت كلمة “خارجية” في أول وثيقة رسمية تصدر عن سلطة تحكم دمشق، إذ كلف الملك أحد المواطنين، وهو فلسطيني، بالشؤون الخارجية. طمحت سورية إلى أن تكون لها وزارة خارجية، إشارة إلى استقلالها. قد يقال: 9/3 قد يغضب لبنان، قد يوحي بتوسعية سورية. وإجابتي واضحة: سورية ترى لبنان وطناً نهائياً. و9/3 موعد توثيقي فيه أعلنت دمشق استقلالها ضمن النظام الدولي، ويحق لها أن تعتبره بداية لدبلوماسية عصرية ممارسة منها. وينطبق على لبنان ما ينطبق على الأردن وفلسطين.

لم أدرس بدقة التزامن في واشنطن بين الأيام الأخيرة التي سبقت صدور تصريح بلفور، والأيام الأولى لإعلان الرئيس ويلسون حق الشعوب في تقرير مصيرها. ذلك أمر هام جداً في تقييم إخلاص ويلسون لمبادئه. إلا أن من الواضح في المثال السوري، أن حدود الدولة السورية لم يقررها فاعل واحد هو الشعب السوري وجيشه. كان لهذا الفاعل دوره، ونحب أن نقول: الدور الأهم. وكان للإرادات الخارجية دور أيضاً.

توقف حديثي عند الجلاء وما سبقه. وبالطبع نعلم أن سورية خبرت وما تزال، احتلالاً جديداً لجزء من أرضها نتيجة عدوان عام 1967. لن أخوض هنا في الوضع الجغرافي الناشئ عن ذلك العدوان المستمر منذ نصف قرن. وأختم هنا بملاحظة لا بد منها: إذ اكتفي بهذا القدر عن سورية، فإنني أدرك، في الوقت نفسه، إنني اقتصرت على معالجة بعض الوضع السوري ضمن عنوان يصح ألا تقتصر دلالته على سورية.

 

من منتجات الحروب في المشرق العربي

 

ثمة أمور ثابتة أنتجتها الحروب في المشرق العربي بعامة، وفي البلاد العربية كلها، هي، بترتيب ورودها إلى الخاطر وقت الكتابة، وما حسبته لحظتها من تسلسل في الأهمية، كما يلي:

1- توطين الفقر. أشعر بهذا الأمر في سورية يومياً. لكن حتى في الدول العربية الأغنى، نجد اقتصاداً في الإنفاق. ومن التكهنات المتداولة وقت الكتابة (أواخر نيسان 2017) أن العودة الجزئية إلى الإنفاق في المملكة السعودية إنما هي مقدمة لتطورات كبرى. والله أعلم.

2- ازدهار صناعة السلاح وتجارته، وما يتبع ذلك من احتشاد ثروات في أياد قليلة من جهة، وإفقار دول من جهة ثانية، وتوسّع في قتل الناس من جهة ثالثة.

3- زيادة فاحشة في أعداد المهجرين واللاجئين والمحتاجين إلى معونات إنسانية. ونعلم بالطبع تأثير اللاجئين على الأوضاع العامة في كثير من دول اللجوء. ولأن اللجوء السوري هو الأكثف، فإن تأثيره على الدول المجاورة كبير، وفي الطليعة منها لبنان والأردن، حيث يسهل انخراط اللاجئ في المعترك الحياتي اليومي على أرضية وحدة اللغة.

4- ما لا يحصى من نتائج اجتماعية في طليعتها ازدهاران متناقضان: ازدهار ممارسة التعصب بأنواعه كافة من جهة، وازدهار الدعوات إلى ثقافة التنوير والعلمانية من جهة ثانية.

5- وبنتيجة ازدهار التعصب نشهد انخفاضاً في نسبة بعض المكونات الدينية إلى مجموع السكان، كما نشهد تغيرات ديموغرافية حسب معايير متعددة من جهة ثانية.

6- وينتج الخراب تنافساً بين الممولين الكبار في موضوع، يتفوق جانبه الاقتصادي على جانبه الأخلاقي، هو موضوع إعادة الإعمار.

7- والحصيلة الكبرى من النتائج ثبوت تضاؤل دور النظام الدولي، وما يفترض أن يقترن به من مثل إنسانية عليا يفاخر بها قرننا ما سبقه من قرون.

تلكم نقاط سبع تقبل الاختصار والتطويل والدمج وإعادة الترتيب، ولكل منظوره. وفي بحث كل منها مطولات متداولة، ولكن هل تنتج حدوداً جديدة في المشرق العربي، كما في العنوان الكبير، أو تنتج حدوداً جديدة في سورية، كما في فهمي الخاص الصريح للعنوان؟.

 

لماذا استبعاد إمكان رسم حدود جديدة؟

 

ثمة تداول مستمر في إمكان رسم حدود جديدة في المنطقة، ولاسيما لسورية وفيها. رغم أن هذا الإمكان موجود، إلا انه ضعيف مستبعد. الإمكان موجود، لأن أمريكا إذا وافقتها روسيا، تستطيع إعادة رسم حدود سورية بما يناسبها ويناسب “إسرائيل” ودولاً إقليمية وعربية، إلا أن روسيا لا توافق، ولن توافق. وليس في الأفق ما يبرر القول بأن لعدم الموافقة الروسية ثمن، حين يدفع، تتمّ الموافقة. تستطيع الإرادة الدولية الانتصار على إرادة معظم السوريين، إلا أن هذه الإرادة ليست موحّدة. حين جرى تطبيق اتفاق سايكس بيكو، كانت الإرادة الدولية موحّدة. تمثّلت المعارضة في موقف غامض ضعيف اتخذه الرئيس ويلسون حين بعث بلجنة كينغ – كرين إلى سورية. ولنتذكر أن الفترة الأخيرة من حكم الرئيس ويلسون، ولاسيما في علاقتها بالشرق الأوسط، كانت غامضة مشوبة بالمرض. هو بالتأكيد، أو على الأقل في الأرجح، لم يوقّع على أية وثيقة تتعلق بوعد بلفور الذي نقلت موافقته عليه إلى الحكومة البريطانية فأصدرت الوعد. وهو لم يكن ذا تصميم على معارضة الاتفاقات السرية التي أعلن شجبه لها.

لن تكون حدود جديدة دون رضا روسي، وروسيا حازمة في موقفها من أنها ملتزمة بالتحالف مع سورية. ويؤكد السيد الرئيس بشار الأسد دائماً بأن لا تنازل عن أي شبر من الأرض السورية، مؤكداً أن مهمة الجيش فرض سلطة الدولة على كافة المساحة السورية.

يوصلنا ما سبق إلى ضرورة النظر المدقق في العلاقة الأمريكية – الروسية، وفي العلاقة السورية – الروسية.

يصف لافروف العلاقة مع أمريكا، في تصريح له إلى مجلة اسكواير Esquire الأمريكية، بأنها أسوأ مما كانت عليه أيام الحرب الباردة. ولا أوافقه الرأي. تفرض على السياسي مهنته أن يرسم الوضع على النحو الذي يناسب سياسته. أفهم تصريح لافروف على أنه تحذير هدفه تنشيط التواصل. كما أن عدوان أمريكا على مطار الشعيرات تحذير له هدف تواصل مبني على أساس إحراز توازن في الميدان.

بصفتي متابعاً للسياسة الدولية، وأهم ما فيها علاقة موسكو بواشنطن، أقول: كانت أيام زرع الصواريخ السوفييتية في كوبا، وأيام أزمة برلين، أخطر بكثير من أيامنا هذه. لا أحد يتوقّع مجابهة مباشرة بين موسكو وواشنطن. من الصحيح أن في واشنطن دوائر تخطط لمزيد من تفكيك سلطة موسكو على الجغرافية التي تسيطر عليها. ومن الصحيح أيضاً، وبالمقابل، أن روسيا تخطط لمزيد من التوغل في أوروبا، والقرم شاهد، إلا أن “لحظة الحسم” ليست قريبة، وفي الأرجح لن تأتي. ثمة مخاض عالمي غامض المعالم واضحة معاً. يتعلّق غموض المعالم بكيفية وزن القدرات المتنافسة الموضوعة في الميزان. أما وضوح المعالم فثابت من حقيقة أن العالم خرج، بالأزمة السورية، وعبر عودة إمساك روسيا بحقها في النقض، من عالم الأحادية المقررة – بكسر الراء الأولى – إلى عالم أحادية منافسة، بل إلى ثنائية، بل إلى تعددية. غزو العراق أنموذج، والوضع في سورية أنموذج مقابل.

وتعتمد قوة العلاقات السورية – الروسية على قواعد عديدة متنوعة، تمتد من محور الاستراتيجية الجيو-سياسية العسكرية، عبر التقدم إلى مناطق جيوسياسية كانت محظورة على روسيا في السابق، وليس انتهاء بتحقيق ثنائية معترف بها مع الولايات المتحدة، مع إمكان البناء على الثنائية لتصبح موسكو، روما الثالثة، المنسق الأول بين القارات الثلاث.

ولا نهاية للتنظيرات، ولا للعوالم التي تتخيلها الاستراتيجيات. فلننظر إلى الواقع. ثمة نزيف دم في المشرق العربي، وأغزره في سورية، وثمة نذر بمزيد من النزف. وما ابتدأ في سورية على أنه “صرخة من أجل الحرية والديمقراطية”، توضّحت صورته الآن، إما نتيجة تطورات الأحداث، أو بتخطيط سابق للأحداث.. توضّحت حقيقته كاشفة عن تنسيق بين أطراف عدة بينها “إسرائيل”. وحين نقول: إن “إسرائيل” ليست غريبة عن تنسيق مناهض لسورية ولنظامها السياسي، فلن ننسى أنها الوحيدة، من بين كل “دول التنسيق”، التي تطالب علناً بشرعنة رسم حدود جديدة لسورية قائمة على أساس واقع الاحتلال. وتلي تركيا “إسرائيل” في محاولة خوض تجربة رسم حدود سورية جديدة بالحروب. وفي انتقادات أردوغان المتكررة لمعاهدة لوزان تصريح واضح بأن تركيا تخطط لكي تدفع بحدودها جنوباً على حساب سورية. أما آخر المصرحين برسم حدود جديدة فهو ذلك العهد الحوراني، الذي لا أرى أهلنا في حوران – وأستمر على صلة حميمة مع كثيرين منهم- إلا أشد المقاومين له.

ولا تنتهي حكاية رسم حدود جديدة بالجولان، أو بمناطق سورية محاذية في الشمال والجنوب. لدينا احتشاد سلاح العالم في الشمال الشرقي بمواجهة “داعش”. سلاح تشهره دول وجماعات مسلحة سورية وغير سورية. الوضع دقيق هناك، والتحالفات متقلبة متقاطعة. تصوب تركيا، حليف أمريكا في الأطلسي، على حليف سوري لأمريكا متمثّل في “قوات سورية الديموقراطية”. تتشارك روسيا وغريمتها أمريكا في التعاطف مع فئات تشهر الفدرالية، أو تذهب إلى حد الدعوة إلى استقلالية كاملة. وتكثر التكهنات بشأن ما بعد “داعش” في العراق وفي سورية. وتستعاد خرائط نشرتها الصحف قبل سنوات عن كيفية تفتيت المنطقة. ويكثر الحديث عن مناطق آمنة، أو عازلة، أو مجردة من السلاح، أو محظور فيها الطيران. إنه شرق أوسط جديد، أو كبير، أو عريض، فأية رؤية للمستقبل؟.

ثمة مؤشرات متناقضة بشأن المستقبل. هناك احتمال استمرار التقدّم العسكري السوري لإعادة السيطرة على كامل المساحة السورية، مدعوماً بمصالحات تتمّ وفق أسس عملية تلقى قبولاً صامتاً من القوى المعارضة المتعقّلة الفاعلة. التقدّم في هذا الاحتمال يتطلب تفاهماً أعمق بين روسيا وأمريكا، وهو أمر ليس مستبعد الحصول. تتيح آليات جنيف، وأستانة، والوساطة الدولية، ومرجعية القرار 2254، المجال للتفاؤل الحذر. وفي مجال استنبات التفاؤل عبر التحذير، أدرج تصريح لافروف آنف الذكر.

وهناك إمكان لاستمرار عرقلة المعارضة، مدعومة ممن يدعمها، للتقدّم العسكري. وقد لا يكون لهذا الأمر نهاية في المستقبل المنظور. هذا الإمكان مرهق للمنطقة كلها، وقد لا تنجو “إسرائيل” من الإرهاق المتولّد المتعاظم سريع الانتشار.

وتثار بالطبع مسألة رسم حدود جديدة مرتكزة على أساس من مناطق آمنة أو عازلة أو مناطق حظر جوي، أو مناطق حكم ذاتي لإثنيات معينة. مثل هذا التدبير يخل بالكثير من المعادلات الداخلية في دول المنطقة. كل عبث بالحدود الدولية الراهنة لسورية، وكل محاولة لرسم حدود داخلية سورية بإرادة دولية، دعوة إلى فوضى عارمة مكلفة للجميع.

ثم إن ما يعزز استبعاد إمكان رسم حدود جديدة تأكيد الغالبية الساحقة من المعارضين، معروفي الهوية، على رفض تقسيم سورية. صحيح أن الدولة السورية، التي نشأت في أعقاب الحرب العظمى، ضمت أطيافاً متنوّعة من المواطنين، وصحيح أن عملية الاندماج المواطني لم تتم بأحسن الصور، إلا أن من الصحيح أيضاً أن سورية من أفضل دول المواطنة بين البلاد العربية، وربما أفضلها إطلاقاً، ومن الصحيح فوق ذلك أن السوريين أشداء في حرصهم على وحدة الدولة، وفي تصديهم لمحاولات التقسيم.

تتضمن رؤية المستقبل مشاهد عديدة، إلا أن مشهد رسم حدود جديدة مستبعد جداً.

 

خاتمة: في مئوية وعد بلفور

 

يلفت النظر في تطوّرات الأيام الأخيرة اعتذار بريطانيا الضمني عن وعد بلفور، رغم تصريحها المعلن برفض الاعتذار. أوردت وكالات الأنباء – بحسب ما قرأت في جريدة البناء/ 24 نيسان 2017 – فقرة في بيان رفض الاعتذار، نصها كما يلي: “وندرك أن الإعلان كان يجب أن يدعو إلى حماية الحقوق السياسية للسكان غير اليهود لفلسطين، ولاسيما حقهم في تقرير المصير”. وقبل أن أبيّن عدم كفاية هذا الاعتذار الضمني، أتابع موضوع تفكيك البنيان الفكري لوعد بلفور.

في عام 2013، وفي أحد المؤتمرات، قال السفير البريطاني: إن المكتب الدبلوماسي لرئيس وزراء بريطانيا ما يزال يدرس رسالة وجهتها إلى رئيس الوزراء آنذاك، وسلمتها باليد إلى سفير بريطانيا حين قام بزيارتي في المنزل عشية الأحداث السورية. قال السفير ما قاله محاولاً التقليل من أهمية الرسالة التي طلبت فيها من السيد كاميرون المساهمة بمقال للطبعة السادسة من كتابي بعنوان (وعد بلفور) يقيّم بها ذلك الوعد. أتى تقييم حزب كاميرون للوعد متأخراً بسنوات ست بعد الطلب المحق.

تأخرت استجابة الحكومة البريطانية على الطلب المحق بأكثر مما تأخرت استجابة الحكومة السورية للطلبات المحقّة التي قدّمت إليها. أقارن هنا بين استجابتي الحكومتين، لأن السفير البريطاني في كلمته أخذ على الحكومة السورية تأخرها في الاستجابة إلى الطلبات المحقة، وهو مأخذ يوجه مضاعفاً إلى الحكومة البريطانية ممثلة بأرفع نخبها.

قلت قبل قليل: إن البيان البريطاني غير كاف. في البيان اعتذار لكنه ضمني. الاعتذار الصريح أوفى بالغرض. والغرض هنا تضميد جرح الفلسطيني الجريح الذي يخوض اليوم معركة الأمعاء الخاوية، وهي معركة ولا أنبل، تعرف بريطانيا نبلها، بل نبلها ومجدها، من تجربتها في ايرلندا.

وقلت: إن علينا متابعة تفكيك البنيان الفكري للوعد. يذكر بيان الخارجية البريطانية تبريرين للوعد: ديني وتاريخي. فأما الشأن الديني فينبغي أن يعهد النظر فيه إلى لجنة حوار الأديان في الأمم المتحدة، وإلى أخوات كثيرات لتلك اللجنة في نظام الأمم المتحدة وعائلتها. وأضع سلفاً أمام اللجنة ورقة عمل عن الموضوع قدّمتها إلى جامعة الروح القدس، عام 2008، وعنوانها (وعد بلفور في كتب الديانات الثلاث). وفيها أقدم رأياً مفاده أن بلفور هو الجد الفكري الأعلى لهذا أو ذاك من الناس والتنظيمات. أما الشأن التاريخي فمن اختصاص اليونسكو المعنية بكتابة تاريخ العالم. إن عامنا هذا تاريخي لأنه عام مئوية وثيقة ساهمت أكثر من أية وثيقة أخرى في كتابة تاريخ المنطقة. ورئاسة القمة العربية الراهنة معقودة لدولة كانت ولادتها من نتائج تنفيذ وعد بلفور، وللحد من امتداده الجغرافي.

أختم إذن بجوهر البحث، وهو واضح في كل حال: على روسيا وأمريكا أن تكونا أكثر جدية عملية، والتزاما أخلاقياً، في ترتيب شؤون المنطقة والعالم. المنطقة أولاً ثم العالم. هنا، أيها الرئيسان الكبيران، تزهق الأرواح.

اخبار الاتحاد