بين مطرقة الحرب وسندان ضعف الإمكانات، فقدت الآثار السورية التي تمثل تراث الإنسانية منذ آلاف السنين، الكثير من مقتنياتها، ورغم ما تصر عليه مديرية الآثار السورية عندما تقول إن الأغلبية المطلقة من هذه الآثار هي «بالحفظ والصون»، لكن ما تعرضت له المعالم والحاضرات والمواقع من نهب وسلب خلال سنوات الحرب، لا يمكن التخفيف من حجمه وكارثيته، الأمر الذي يدفعنا لمناقشة قضية الآثار من ناحية، ومن جانب آخر البحث في مسؤولية الإدارات المختصة بهذا الشأن وهي المديرية العامة للآثار التي تقول بعض الآراء إنها قصّرت عن إنجاز الكثير مما كان في الإمكان إنجازه على صعيد حماية الآثار ونقلها وتوثيقها رقمياً، في حين تشير آراء أخرى إلى أن جهود المديرية كانت جبارة في ظل ظروف الحرب ونقص الكوادر وغياب الدولة في بعض المناطق… في جميع الأحوال، فإن المعطيات على الأرض يمكن أن تجيب عن الكثير من هذه الأسئلة فإلى التفاصيل:>
يتحدث مدير الآثار والمتاحف، الدكتور مأمون عبد الكريم عن هذا الواقع الحسّاس والصعب، فيؤكد أن غياب الأمان في أي منطقة يجعل مهام حماية الآثار تجري في حدودها الدنيا، يقول: «بذلنا قصارى جهدنا ضمن الإمكانات وقمنا كمختصين بالتواصل مع أفراد المجتمع المحلي لحماية ما تبقّى من تراث»!. هذه العبارة «ما تبقّى» تثير الرعب عملياً، فهي بشكل ما تشير إلى فداحة ما جرى من سلب ونهب طال ذاكرة البشرية التي تفرّدت سورية بصياغتها، وكانت تلك حقيقة تدعو للحزن والغضب في آن.
لست مسؤولاً عن التقصير قبل الأزمة لأنني لم أكن موجوداً!
في الوقت الذي تعد فيه المنظمات الدولية الثقافية والجامعات ومئات المختصين، تجربة المديرية خلال الأزمة ريادية وتؤكد أن ما تم إنجازه على صعيد حماية الآثار خلال الحرب السورية لم تستطع بلدانٌ تحقيقه في أوقات السلم، يكبر سيل الاتهامات بالتقصير والتقاعس في حماية الآثار السورية وينهال على المديرية وما كان يفترض أن تنجزه من أجل حماية تلك الآثار، وهو ما يستنكره مدير الآثار مشيراً إلى ظروف الحرب واعتداءات الإرهابيين، يقول:
«ماذا يمكن أن نفعل عندما تسقط منطقة أو مدينة في أيدي المجموعات الإرهابية المسلحة؟ ماذا يمكن أن نفعل من أجل إنقاذ المواقع الأثرية؟».
يؤكد مدير الآثار أهمية الإجراءات التي اتخذتها المديرية لحماية الآثار ويصفها بالاستثنائية.. يقول: «ما قمنا به لاقى احترام كل المؤسسات العالمية عندما أنقذنا الأغلبية المطلقة من المقتنيات المتحفية وتمكنا من توثيقها وتغليفها وحمايتها، أما قبل الحرب، فالأمر لا يتعلق بي كمدير عام لأنني لم أكن موجوداً»، ويضيف: «أنا أتكلم بصفة علمية وما قامت به المديرية في مجال التوثيق للقطع والسجلات والمباني والوثائق الخاصة بالمباني والمخططات نال إعجاب جميع المنظمات العالمية».
يعترف عبد الكريم بالتقصير الذي راكمته المديرية العامة للآثار والمتاحف عبر عشرات السنين الماضية، وكانت الضريبة الكبيرة من نصيب التراث السوري الذي دفع الكثير بسبب ذلك، يقول:
«كنا بحاجة لتدريس منهاج التراث في المدارس حتى نربّي جيلاً واعياً يعرف قيمة آثار بلده على غرار ما يحدث في البلدان المتطورة، وبالنسبة لخريجي الآثار فهم يعملون في المقاهي والمطاعم، وكان من المفروض جعل تعيينهم إجبارياً على غرار المهندسين لخلق شبكة من المختصين في عموم سورية في المدن والقرى فمن خلالهم نستطيع نشر الوعي والحماية والإشراف على المواقع الأثرية بطريقة ممتازة وفعالة». ما يعترف به مدير الآثار هنا، لا يتعلق بأداء المديرية ومسؤولياتها بل بمؤسسات أخرى منها تربوي مسؤول عن المناهج، ومنها ما يتعلق بالحكومة كشأن وظيفي، لكن السؤال هنا: لماذا لم تحاول المديرية رفع مطالبات إلى هذه الجهات تطالب بما يعترف به مدير الآثار؟ لماذا لم تطلب من الحكومة الالتزام بتعيين خريجي الآثار من الجهات الحكومية المختصة، وكذلك الأمر لم تطلب من وزارة التربية تدريس التراث نظراً لأهميته؟. للأسف فقد سبق السيف العذل وكان يفترض بهذه الرؤية الاستراتيجية أن تحصل منذ سنوات طويلة أما ما يساق اليوم من تسويغات فلن يقدم ولن يؤخر من الكارثة التي حلت بالتراث السوري بشكل عام!.
تقاعس
جملة من الاتهامات وُجهت للمديرية أهمها أنها فرّطت بآثار مدينتي الرقة وإدلب!. مدير الآثار رفض هذا الاتهام قائلاً: «من كان يعرف أن الرقة ستُحتل من قبل الإرهابيين؟ ومن كان يتخيل أن يحدث الأمر نفسه في إدلب؟ ماذا يمكننا أن نعمل في تلك الظروف؟. عندما فقدت الدولة هاتين المدينتين، ما فعلناه فاق التوقعات من قبل كل الدول، نحن نعمل عندما تكون الحكومة موجودة وإذا غابت الحكومة نتواصل مع المجتمع المحلي، فمن يتهم المديرية بهذه الطريقة يعني أنه بعيد كل البعد عن كل ما يخص موضوع التراث».
تؤكد آراء المختصين وجود تقاعس في مديرية الآثار في إجراءات حماية الآثار وصيانتها وتوثيقها معلوماتياً، وكل من التقيناهم أكدوا أن التوثيق يجب أن يكون حاضراً في مؤسسة الآثار، لأن التوثيق المعلوماتي هو الإجراء الأكثر حمايةً للآثار، فهو يحميها كمعطيات للحفاظ على الهوية، فتكون في مأمنٍ من عمليات تزويرها ونسخها وتحريف معطياتها أو إبادتها… يأسف مدير الآثار لعدم البدء بعمليات التوثيق الرقمية للآثار السورية قبل الأزمة، وبعد الحرب بدأ المشروع بجهود وطنية، يقول:« قمنا بالأرشفة الرقمية الحديثة للقطع الأثرية وتصويرها من جديد وهذه العملية تساعدنا في إدارة هذه المنظومة الرقمية»، وأضاف: «أنا لا أنتقد ولا أهاجم أحداً، وما قيل من قبل البعض عن توقيف الأرشفة في عام 2007 غير صحيح فقد تم استبعاد أشخاص من المديرية لأنهم كانوا عاجزين عن تقديم أي جهد علمي في هذا المجال»..
الاعتراف بعدم الأرشفة المعلوماتية موضوع كارثي في عمل المديرية، فهل يمكن للأسف الذي يقدمه مدير مديرية الآثار والمتاحف التعويض أو استرجاع الآثار التي دمرت أو هُربت للخارج؟.
حمود: فرّطنا بإرث يعدّ ثروة!
مدير آثار ريف دمشق الدكتور محمود حمود قال إن المديرية العامة للآثار والمتاحف تعاني ضعف الإمكانات وقلة الكوادر، ولا سيما الفنية المتخصصة في العمل الأثري والعلمي، فمقابل آلاف المواقع الأثرية السورية المنتشرة في كل بقعة من سورية فإن عدد الآثاريين الحقيقيين يعدّ على الأصابع، وعدد حراس المواقع الأثرية لا يكفي لحماية هذه المواقع، وضمن هذه الإمكانات لا يمكن للمديرية أن تعطي وتجترح المعجزات فقد أبلت بلاءً حسناً وقامت بإنقاذ ما استطاعت من التراث السوري ولا سيما المقتنيات المتحفية التي تم تأمين معظم مقتنياتها باستثناء الرقة وإدلب.
يعدّ حمود حماية الآثار كإرث ثقافي سوري، من واجب المجتمع قبل أن يكون من واجب السلطات الرسمية السورية، ولفت إلى أن الأزمة التي ألمت ببلدنا أثبتت أن قسماً كبيراً من هذا الشعب كان جاهلاً لا يعي قيمة هذا التراث الذي ينام في أحضانه، فجرى التفريط به والتخلي عنه واستباحته وهتكه وبيعه للأجنبي، يضيف حمود:
«مئات المواقع الأثرية اغتصبت ولا تزال وقد انتزعت أرواحها من جوفها، على أيدي أبناء الوطن للأسف، إن من فعل هذا الشيء بتراث آبائه وأجداده لا يمكن أن ينتمي إلى من شيّد هذه الحضارة وأنار طرق المعرفة أمام البشرية.
تؤكد المعلومات أنه قد تم التفريط بكثير من المواقع الأثرية وخاصة في المناطق التي تقع تحت سيطرة الإرهابيين، عن هذا الموضوع يقول حمود:
تم التفريط بأهم ما نمتلكه من إرث وثروة تضاهي كل ثروات العالم المادية، فهذا المعين الذي لا ينضب تعرض لهجمات بربرية من قبل أعداء أمتنا الظلاميين التكفيريين الذين شنوا هجمات متتالية ومتعاقبة.
خلايلي:مجرد تصريحات!
الدكتور ابراهيم خلايلي كانت له وجهة نظر أخرى، فهو يرى أن إجراءات حماية الآثار وصيانتها وتوثيقها معلوماتياً يجب أن تكون حاضرة بشكل طبيعي في مديرية الآثـــار، فالتوثيق المعلومــــاتي وليس التصوير فقط- هو الإجراء الأكثر حمايةً للآثار.. يؤكد خلايلي أن تصريحات المسؤولين في المديرية والوزارة كانت تبعث على الاطمئنان فيما يخص الآثار لكن هذا لم يكن حقيقياً للأسف.. يضيف:
«هناك تصريحات عدة عن توثيق الآثار السورية، كتصريح وزيرة الثقافة السابقة لقناة الإخبارية السورية في 2/3/2014 بأن «الآثار والمتاحف بخير وأنها موثّقة كلها…» وتصريح وزير الثقافة السابق للفضائية السورية بتاريخ 30/9/2015 أن «98% من آثارنا بخير وهي موثقة بشكل كامل»، وتصريحات مماثلة لمديري الآثار، فإلامَ استندت هذه التصريحات»؟. يضيف خلايلي:
«مشروع التوثيق المعلوماتي الوطني الأول والأمثل للآثار والمتاحف السورية قد تعرّض للعرقلة سنة 2007 من دون بديل مناسب، في حين أكملت مؤسسات آثار – بعضها مسيء – مشاريعها في الآثار السورية عام 2011 متضمنةً قواعد بيانات وكتباً ومنشورات، وهنا لا بد من بيان حقيقة إنتاج المؤسسة الأثرية في مجال إجراءات الحماية والتوثيق المعلوماتي للمتاحف والتنقيب والمواقع الأثرية والقطع والرُّقُم والمباني الأثرية بوظائفها المعمارية المختلفة»… يتساءل خلايلي:
«أين قواعد البيانات الخاصة بكل ذلك؟ وهل يكفي توثيق الأضرار و«تصوير» آلاف القطع الأثرية وتوثيق وثائق مديرية المباني والأرشيف العثماني؟… وهل تعوّض إجراءات توثيق أضرار الحرب على الآثار السورية الآن، إجراءات حماية تلك الآثار قبل الحرب؟.. لو كانت المواقع الأثرية في الجزيرة السورية –مثلاً- موثقة توثيقاً فعالاً، فهل يمكن لـ«الانفصاليين» هناك نزع الهوية السورية عنها كما نشهد الآن، وهل يمكن قبول ذلك في كل الأحوال؟.
ختاماً أشار خلايلي إلى «عزم معهد الآثار الألماني عام 2016 على إطلاق مشروع توثيق للتراث السوري» ، وقيام جامعة «يال» الأميركية في مطلع هذا العام بتوثيق الأبنية الأثرية في دمشق وحلب، فأين توثيق مديرية الآثار وإجراءاتها السابقة، ولماذا توكل هذه المهمة الآن لمؤسسات أجنبية يثير بعضها إشارات استفهام.عن هذا الموضوع يقول مدير الآثار مأمون عبد الكريم:
«إن جامعة «يال» والمعهد الألماني أو أي جهة أخرى، يحاولون توثيق أرشيفهم الخاص بسورية ويعملون على التنسيق معنا حتى لا يحدث تكرار للعمل وهذا ما طالبت به «اليونسكو» من كل الشركاء الدوليين في اجتماع شباط 2014 بألا يقوموا بإعادة توثيق ما قامت به المديرية لأن المنظمة مقتنعة بأن أعمال التوثيق في المديرية علمية ومهنية وعالية المستوى، «طبعاً قضية التوثيق قضية مستمرة ودائماً نستفيد من البرامج الحديثة بما يساعد على تطوير أنظمتنا برؤية علمية»، وإلا لماذا تقدم «اليونسكو» كل هذا الدعم لنا؟.. لافتاً إلى أنه لم يتم توكيل أي جهة أجنبية من قبلهم والعمل جار بجهود كوادر المديرية، يضيف: «يختصر التعاون الدولي من خلال تزويدنا بأحدث الأجهزة والبرامج التي تسهل عملنا في مجال التوثيق».
في سياق متصل، أكد مصدر واسع الاطلاع لصحيفة «تشرين»، تحفّظ باسمه بعيداً عن النشر لأسباب السلامة الشخصية، أن تجربة المديرية العامة رائدة في هذا المجال، لكنه كان من الصعب إخراج القطع من بعض المناطق نظراً للوضع هناك. وأشار إلى أن البعض يرى أن المديرية فرطت بآثار الرقة وإدلب وهذا الكلام غير صحيح.. يضيف: «أنا كنت موجوداً في إدلب، وكان الوضع جيداً هناك، لكن الطرق المتاخمة للمدينة كانت خارج السيطرة ومن الصعب إخراج القطع قبل أن تسقط المدينة».
في النهاية
غياب توثيق آثار الجزيرة السورية معلوماتياً يثير التساؤل، وأيضاً بالنسبة لآثار مدينتي إدلب والرقة التي كان في الإمكان فعل أشياء كثيرة على صعيد إنقاذ الآثار فيهما أقلّه التوثيق المعلوماتي الذي لم ينجز للأسف.. وهو في كل الأحوال يعد أضعف الإيمان لأنه من مهام المديرية بغض النظر عن ظروف الحرب!. لماذا لم ترسم المديرية استراتيجية كاملة تتعاون بها مع وزارة التربية من أجل نشر الوعي الأثري عبر المناهج المدرسية؟ ولماذا لم يتم اتخاذ إجراءات حكومية تتعلق بالتوظيف الإلزامي لخريجي الآثار من أجل توفير الكوادر للمديرية؟ كلها أسئلة مازالت معلقة ويبدو أن القضية تحتاج بحثاً شاملاً على أكثر من صعيد!.