د: عبد اللطيف عمران :
من الواضح أن الأحداث التي تعيشها منطقتنا والعالم تشير إلى استعصاء في ولادة نظام عالمي جديد، كانت تحلم الإدارة الأمريكية وتعمل على رسم ملامحه بسهولة كما تظن، انطلاقاً من هذه المنطقة وعلى حامل «الربيع العربي».
لكن، في هذا المسار حدثت مفاجآت كبرى لم تكن في الحسبان، يتجلّى أهمها في معجزة الصمود العربي السوري التي بددت الخطط، وستبدد الخرائط، وستجعل من سطوة البترودولار التقليدية أضغاث أحلام.. وها هو الشرق ليس كما كانت تتصوره المركزية الغربية.
وها هو الخليج مُضطرب واسع يصعب ضبط مسار الأحداث فيه، وفيه ملامح استعصاء ولادة ذلك النظام العالمي الجديد المتعثّر والمقترن بانفجارات هامشية أحياناً ومركزية أحياناً أخرى تتجلى أكثر ما تتجلى في اضطرابات ترامب الداخلية، والخارجية أيضاً، مع كل الجهود التي تبذلها روسيا لمنع تفاقم هذه الانفجارات.
ويبدو أن مركز الانفجارات الجيوسياسية الإقليمية يشهد انزياحاً ليتمركز بشكل آخر في الخليج لاسيما بعد الزيارة المدوّية لترامب إلى الرياض وما أعقبها فوراً من إشكالية قطر حيث تأكّد أنه ممنوع لأحد في الخليج أن يتنفس إلاّ عبر الرئة الصهيوأمريكية. فمتى كانت قطر أكثر دعماً للإرهاب والتطرف من السعودية؟!
إن تصريحات ترامب مؤخراً حول قطر وكما أكدت صحيفة نيويورك تايمز “تبعث برسائل مخيفة ليس إلى قطر وحدها بل إلى حكام الخليج جميعاً، حيث تعكس هذه التصريحات موقفاً غير مسبوق في تاريخ التحالف الأمريكي القطري والتي أظهرت تخليّاً سهلاً وسريعاً عن الحليف القطري، ما سيجعل الحلفاء الآخرين يتساءلون بقلق: من التالي؟”.
إننا في المنطقة والعالم، وتحديداً في الخليج، أمام أوضاع جديدة يبدو أنها غير قابلة للسيطرة، وتدفع إلى مزيد من الترقّب والتروّي في التحليل والاستنتاج، فمنذ خمسينيات القرن الماضي تنبأت السرديّة العربية السياسية والأدبية بهكذا مسار.. وأنشد السيّاب وأنشد معه أحرار العرب والعالم: أصيح بالخليج: ياخليج/ياواهب المحار واللؤلؤ والردى/فيرجع الصدى/كأنه النشيج/ياخليج؟!.
فالجميع يعرف كيف تعاني المنطقة منذ أكثر من 70 عاماً من النفط والدولار، واقترانهما بسياسات الهيمنة وبالفتن والاضطرابات الإقليمية. وفي دول “الشرق الأوسط” تدفع الشعوب ضريبة أخرى غير ضريبة البترودولار، وهي ضريبة وجود الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية فيها في الحجاز وفي فلسطين، فتتلاقى النِعم، بالنِقم، والبترودولار بالرجعية، وتترافق إشكاليات الأصوليات وما ينجم عنها، مع إشكاليات سياسات البترودولار.
البترودولار كمصطلح وكممارسة هو ما نجم عن لقاء الملك عبد العزيز آل سعود في شباط 1945 مع الرئيس الأمريكي روزفلت على ظهر الطرّاد الأمريكي كوينسي في السويس وكانت “اتفاقية كوينسي” وبموجبها توفّر الولايات المتحدة الحماية اللا مشروطة لحكم آل سعود، مقابل ضمان العائلة إمدادات الطاقة التي تستحقّها الولايات المتحدة، وتتعهّد العائلة ببيع النفط بالدولار. مع هذه الاتفاقية تعزز الوضع الاقتصادي والسياسي للبترودولار في العالم، وتم تجديدها وتحديثها بين الطرفين عام 2005 مع بوش الابن، وكانت الإشكالية الكبرى في توسيعها وتعزيزها بزيارة ترامب إلى الرياض عام 2017 وما أعقبها من مشكلة قطر الطالعة إلى مسرح الأحداث، ما جعل الولايات المتحدة قوة استبداد اقتصادي وسياسي عصيّة على التصنيف.
وكانت الولايات المتحدة قبل سنة من هذه الاتفاقية قد دعت إلى اجتماع نجم عنه اتفاقية بريتون وودز عام 1944 وبموجبها ربح الدولار مركزاً بعلاوة مشجّعة كعملة مرجعية، فانتقلت الهيمنة على الاقتصاد العالمي من أوروبا إلى الولايات المتحدة، لكن الاتفاقية لم تلبِّ الطموح فكانت اتفاقية بترودولار كوينسي كافية لضمان الهيمنة الأمريكية كما يبدو.
إذن، إنه الاقتصاد، بل الاقتصاد السياسي، المحمول اليوم على صراع الحضارات، وتهديم الدولة الوطنية، والاستثمار في «الجهاد»… فيغرّد ترامب بعد قمم الرياض وإشكالية قطر:«لن يكون هناك أيّ تمويل للأيديولوجيا الراديكالية بعد الآن»، فهل الوهابية السعودية غير راديكالية، وهل الوهابية أقل تطرّفاً من الإخونجية.. وهذا ماسيؤجج النار بين المتطرفين ومشغليهم، وقريباً ستلفح الرياح الحارّة وجوههم جميعاً.
لقد عانى البترول من الدولار، وسيبقى يعاني ليس في الخليج فقط، بل في العراق وليبيا وفنزويلا، وإن دائرة هذه المعاناة ستتسع، وستشهد تحولات ليست في صالح البترودولار كتقليد. وإن ماتعانيه قطر وقبلها العراق وليبيا ليس أقل مما تعانيه السعودية، وقريباً ستُسقِط شعوب العالم وأحراره والقوى الطالعة فيه الرهانَ على البترودولار السياسي على الأقل.