د.خلف علي المفتاح
الذاكرة الأوربية ذاكرة نشطة وتنتج رؤية ومنهجاً وسلوكاً ولا تتعامل بلغة العواطف لا مع الصديق ولا مع العدو لأنها تنطلق من قاعدة أن أوروبا وحفيدها الأميركي يجب أن يستمر القوة الأولى في العالم ،
وهذا يستدعي أيضاً أن لا يقوى خصومها التاريخيون عليها ولاسيما أولئك المتساكنون معها جغرافياً، وعلى هذه القاعدة الاستراتيجية سارت السياسات الأوروبية طيلة العقود الماضية حتى في زمن انحسار دور أوروبا الاستعماري بعد الحرب العالمية الثانية حيث انتقل هذا الجين السياسي بالوراثة إلى الحفيد الأميركي وريث القارة العجوز .
وللتدليل على تلك الفرضية لا بد من دعمها بالشواهد الحية، ولعل الإقليم الشرق الأوسطي بحديه العربي وجواره هو المجال العملي لذلك، بدليل أن الغرب بضفتيه يواجه بقوة أي دولة من دول المنطقة تعمل على تعزيز قوتها ونفوذها حتى لو كانت في دائرة حلفائه كتركيا والسعودية ومصر وخارج تلك الدائرة مثل سورية والعراق وليبيا والجزائر وغيرها من دول وإعمالاً لتلك القاعدة واجه مصر عبد الناصر حاملة الدعوة القومية، وكذلك سورية رافعة راية الوحدة العربية ورائدة محور مقاومة مشاريعه الاستعمارية والعراق الذي أراد بناء دولة قوية ووضع حدود لاردوغان الطامح في استعادة الخلافة العثمانية بلبوس علماني إخواني ، وايران الطامحة في أن تكون قوة إقليمية وكذلك السعودية المتمددة باتجاه اليمن فوفق الاستراتيجية الغربية يحب أن تبقى هذه الدول ضمن محيطها الداخلي وينحصر تفكيرها واستراتيجياتها في الإجابة على السؤال : كيف تحافظ على كينونتها الوطنية، يستثنى من ذلك الكيان الصهيوني الذي يمكن ان يستخدم عند الضرورة لكبح تلك الأحلام أو بعضها إن استطاع ذلك وهو ما حصل غير مرة .
إن الذاكرة الاستعمارية الغربية ما زالت تستحضر حصار فيينا والدولة العربية الإسلامية الممتدة من الأندلس غرباً وحتى حدود الصين شرقاً وتعي جيداً ان نقطة انطلاقها كانت دمشق الشام حيث رفع في سمائها علم الدولة العربية المنشودة بعد الثورة ضد الأتراك العثمانيين، والغرب في هذه الحالة لا يتذكر فقط ولكن يعمل ويسعى كي لا يعيد التاريخ نفسه وتستجمع هذه المجموعة البشرية الحضارية عناصر قوتها وتمتلك أسباب القوة التي تجعل منها رقماً صعباً وكتلة وازنة في اطار رسم خرائط دولية جديدة .
إن مراجعة شاملة لمنهجية التفكير والثقافة السياسية التي تحكم العلاقة مع المحيط الإقليمي والدولي عند حكام المنطقة بات مسألة ضرورية لوقف التدهور الحاصل في البيئتين العربية والإقليمية، وإلا فإن شعوبها وأوطانها تتجه نحو المزيد من التفكك والتشظي والصراع، ما يعني أن كيانيتها الوطنية إلى مزيد من التدهور والضعف والشرذمة، فالقاعدة اليوم لم تعد فرق تسد وإنما قسم تسيطر وتسد، ولعل المشهد العربي اليوم هو الدليل الحي على ذلك، فالصراعات البينية والخلافات المفتعلة بين دوله هي العلامة الفارقة له، الأمر الذي يدعو إلى وضع العديد من علامات الاستفهام والتعجب والاستغراب، حيث الجميع يتحدث عن الأخطار التي تتهدد الكيانية القطرية والقومية مع غياب شبه كامل لاستراتيجية مواجهة قادرة على التصدي لمجمل تلك الأخطار أصبحت تنصب خيامها في كل مكان.