العيد الوطني الفرنسي

د. مازن المغربي:

تحتفل فرنسا في الرابع عشر من تموز بعيدها الوطني، وجرت العادة أن يتم تنظيم عرض عسكري ضخم في منطقة “قوس النصر” في باريس. وتميز احتفال هذه السنة بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث يصادف هذا العام ذكرى مرور مئة عام على دخول الولايات المتحدة الحرب الأوروبية الطاحنة التي تم التوافق على تسميتها بالحرب العالمية الأولى، والتي كانت في واقع الأمر، وخلال سنواتها الثلاث الأولى، حرباً بين دول أوروبية رأسمالية متنافسة. لكن الوضع تغير في السادس من نيسان 1917، مع إعلان واشنطن الحرب على ألمانيا، حيث انضمت دول من قارة أخرى إلى الحرب، ولعبت جيوش الولايات المتحدة دوراً حاسماً في الجبهة الغربية، وتمكنت من ترجيح كفة الحلفاء الذين كانوا مستنزفين تماماً.
وتأتي دعوة الرئيس الأمريكي لحضور احتفالات هذا العام في إطار محاولات الرئيس الفرنسي الجديد رأب الصدع في المعسكر الغربي، والحد من عزلة رئيس الولايات المتحدة الذي لم يكن مرتاحاً خلال اجتماع قمة الدول العشرين في مدينة هامبورغ، إذ ستمنحه هذه الزيارة فرصة متابعة العرض العسكري الذي تشارك فيه وحدات من بلاده، بالإضافة إلى الاستمتاع بالاحتفالات الشعبية والألعاب النارية التقليدية.
يعتبر العيد الوطني في أي بلد مناسبة لتعزيز تماسك المجتمع، وإبراز الهوية الوطنية في سياق تقوية روابط المواطنة وإعادة التأكيد على الاعتزاز بالماضي المشترك والرغبة في بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة يضمن استمرارية الكيان السياسي. ويتم تنظيم الاحتفالات بصورة مدروسة تشدد على أهمية الحدث بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى تحديده عيداً وطنياً. وإذا كان العيد الوطني في معظم بلدان العالم المنهوب يتوافق مع ذكرى تحقيق الاستقلال، وخروج قوات المستعمر، إلا أن تحديده، بالنسبة للدول التي بنت إمبراطوريات استعمارية ضخمة، مسألة شديدة الحساسية. ينطبق ذلك على الوضع في فرنسا، حيث يسود لدى الكثيرين اعتقاد بأن العيد الوطني الفرنسي مناسبة لإحياء ذكرى سقوط سجن الباستيل، عام 1789، والذي لم يكن في واقع الأمر سوى حدث هامشي ضمن مسار ما يعرف بالثورة الفرنسية الكبرى. ففي ذلك العام، عمت الاضطرابات الشعبية مدينة باريس، وكان الملك وحاشيته يقيمون في قصر فرساي، على بعد 25 كيلومتر من وسط العاصمة الفرنسية. وتفاقمت الأوضاع بسرعة، الأمر الذي اضطر الملك، لويس السادس عشر، إلى دعوة الهيئة التمثيلية التي كانت تضم ممثلين عن مكونات المجتمع من نبلاء وكهنوت وعامة الشعب. ويعود تأسيس هذه الهيئة إلى العام 1302، وكانت كل فئة تجتمع بشكل منفصل بدعوة من الملك لمناقشة المستجدات الخطرة، وبشكل خاص لمناقشة موضوع الضرائب.
كانت الأحداث تسير نحو التوتر، وقام ممثلو عامة الشعب، في التاسع من تموز 1789، بإعلان الهيئة جمعية تأسيسية طالبت بإدخال تعديلات عميقة على النظام، الأمر الذي أقلق الملك، ودفعه لاستدعاء وحدات من الحرس السويسري والقوات الألمانية لتأمين قصر فرساي. لكن تسارع الأحداث فرض على الملك تقديم تنازلات كان أولها مغادرة قصر فرساي، والانتقال إلى باريس بعد أن وصلت أنباء عن الحفلة الكبيرة التي عقدت في الأول من تشرين الأول، وتميزت بالبذخ والإسراف في وقت كان الناس في باريس يعانون الفقر والجوع. وهكذا، انطلقت جموع من النساء، برفقة بعض الرجال، إلى قصر فيرساي في الخامس من ذلك الشهر، وتم اقتحام القصر، وأجبر الملك على الانتقال إلى العاصمة تحت ظل العلم مثلث الألوان، رمز الثورة، حيث يشير اللون الأزرق على يمين العلم إلى مدينة باريس، ويشير اللون الأحمر على يسار العلم إلى دماء الشعب التي سالت، وفي الوسط اللون الأبيض، لون السلطة الملكية، وهذا يتضمن شيئاً من الرمزية يشير إلى أن الملك بات محاصراً في باريس.
كانت الفرصة مناسبة للزعماء المحليين في مختلف المناطق للتخلص من سلطة الملك المركزية. وهكذا انتشرت الفوضى، حيث قام النبلاء في كل مكان بمحاولة بعث النفوذ الذي كانوا يتمتعون به في الماضي، ورد الشعب بتنظيم نفسه في مجموعات مسلحة. وسرعان ما دبت الفوضى، وبدأت مرحلة عصر الرعب والإرهاب، حيث صار في كل قرية وبلدة زعماء جدد يتحكمون بحياة الناس. وبالمقابل، قام الحرس الوطني، تحت قيادة الجنرال لافاييت، بتشكيل وحدات محلية لدعم الحرس الوطني تمكنت من جذب مئات آلاف المتحمسين للنظام الجديد، الذي قلص سلطات الملك بنص دستوري. وهكذا، وبهدف إعادة الاعتبار للعاصمة بوصفها مركز البلاد، دعا الجنرال لافاييت إلى تنظيم احتفال ضخم في الرابع عشر من تموز 1790، يضم ممثلين عن وحدات دعم الحرس الوطني (فيديراسيون). وفي اليوم المحدد، وصل 14 ألف جندي من وحدات الحرس الوطني إلى باريس، وتم تنظيم استعراض عسكري تحت رعاية الملك لويس السادس عشر، الذي أقسم على المحافظة على الدستور الذي أقرته الجمعية الوطنية، وسط هتافات أربعمائة ألف من أبناء العاصمة الذين عبروا عن تمسكهم بملكهم مدفوعين بالرغبة في تعزيز الوحدة الوطنية. لكن تطور الأحداث اللاحقة وضع حداً للوفاق الوطني، حيث تم لاحقاً توقيف الملك إثر محاولته الهرب من باريس، في الحادي والعشرين من حزيران 1791، الأمر الذي أثار سخط الأوساط الشعبية الخائفة من مخاطر قيام الجيوش الأجنبية بمحاولة غزو فرنسا. وهكذا تضافرت مجموعة من العوامل التي عززت مواقع أنصار الجمهورية، وفي الثالث عشر من آب 1792، تم توقيف الملك، وتلا ذلك إعلان الجمهورية في الحادي والعشرين من أيلول.
عاشت فرنسا، بعد ذلك، فترة من الاضطرابات والحروب التي تركت آثاراً ضارة على وحدة المجتمع. وفي العام 1880، أي بعد قرن كامل على وقوع الحدث، قررت الجمعية الوطنية اعتبار تاريخ الرابع عشر من تموز عيداً وطنياً تعطل فيه الدوائر الرسمية، وهو أهم الأعياد في فرنسا، وتم استبعاد ذكرى سقوط الباستيل لارتباطها بانقسام المجتمع وبالاقتتال الداخلي، وتم اعتماد ذكرى الاحتفال الضخم لوحدات الحرس الوطني عيداً وطنياً.
إن الاحتفال بالأعياد الوطنية يندرج ضمن إطار صياغة الهوية الوطنية، كما أن تنظيم العرض العسكري يعزز العلاقة بين الجيش والقوات المسلحة وبين باقي مكونات المجتمع، حيث يتم استثمار مكانة الحدث التاريخي لإعادة تأكيد ثوابت الوحدة الوطنية. ونرى أن فرنسا الجمهورية لم تجد حرجاً في تحديد يوم تلاحم الشعب والملكية عيداً وطنياً، فالحقيقة التاريخية لا تهم أحداً، والمهم عند بناء الأوطان التركيز على البعد العملي الذي يقوي الانتماء الوطني من خلال تحديد يوم واحد باعتباره عيداً وطنياً تنظم فيه الاحتفالات، وتعطل فيه الدوائر الرسمية، ويشعر أبناء الوطن بأن هذا اليوم متميزاً فعلاً، ولا يمكن لأي مناسبة أخرى أن تجاريه في الأهمية.

اخبار الاتحاد