علي قاسم:الثورة
تزدحم التصريحات الفرنسية حول سورية والمنطقة هذه الأيام، وتحديداً تلك التي يتولاها الرئيس ماكرون، حتى تأخذك الشبهة إلى موضع آخر، ومكان آخر لا يشبه الفرنسي في شيء، ولا يتقاطع مع السياسة الفرنسية التي أدمنت الترويج للحروب الأميركية،
وأقدمت في بعضها على الأقل على تقديم ما هو خارج سياق المطلوب منها، ويكاد الخطاب الفرنسي يخرج من جلدته التي اعتادها على مدى سنوات الحرب وعلاقته بالإرهاب، ليقدم صورة لا تتوافق كثيراً مع مقتضيات الحال الفرنسي وواقع المقاربة السياسية المحكومة بعوامل التبعية، وغياب الإرادة والمقدرة لدى ساسته بتعاقب وجودهم في الإليزيه في سنواته الأخيرة.
الواضح أن السياق الذي يخطو باتجاهه ذلك الخطاب، يحاول أن يجاري المشهد السياسي بصورة مقلوبة من جوانب مختلفة عمّا كانت فرنسا تؤديه في السنوات الماضية، ويقدم قراءته للأحداث بطريقة ترسم بعداً فضفاضاً وخادعاً للخروج الفرنسي من ردهات التأرجح في النقطة الفاصلة بين فروض العلاقة مع أميركا ومقتضيات الالتحاف بالفضاء الأوروبي المأزوم والمتآكل بعد الخروج البريطاني، في وقت بدت السياسة الفرنسية تجاه المنطقة في أخطر مراحل التلاشي والغياب، بعد أن أصرَّت على الحضور من زاوية محاكاة أطماعها الاستعمارية بصورة مقززة ووضيعة، وتجنت على الدور الفرنسي وتمايزه في حقبة الجفاء مع الأميركي قبل عقود خلت.
الطرح الفرنسي الجديد الذي يحاول من خلاله ماكرون أن يعدّل من صورة فرنسية أوغلت في تبعيتها وتهميش وجودها، لتصبح مجرد رقم سياسي يعمل للحساب الأميركي، وجبهة تحت الطلب في رأس حربة هيمنتها، لا يخلو من بعض السذاجة وكثير من السماجة، بدليل أن الكثير مما طرحه لا يشكل عناوين صحيحة لمرحلة جديدة يريد أن يرسخ من خلالها صورة السياسي القادم من أجل تغيير المقاربة، فالإرث الفرنسي المتراكم على مدى سنوات، وربما عقود، يدفع إلى الجزم بأنَّ كل ما يُقدِم عليه السياسي الفرنسي اليوم يتكئ على جعبة خاوية ليس لديها مقومات الوجود والتأثير المعتاد في سياق البحث عن رؤية تدرك فرنسا قبل غيرها، أنها لا تمتلك الأهلية السياسية، ولا المقدرة على التحرك خارج الهامش المرسوم أميركياً، وأي مشاغبات من هنا أو هناك، لا تعدو كونها عبثاً سياسياً يراكم من الغيبوبة الفرنسية..!!
وهو ما تكاد تتقاطع عنده مختلف التحليلات التي تتناول المشهد الفرنسي ومقاربته للأوضاع في المنطقة، حيث الفارق بين الفرنسي الذي يجاهر بدعم الإرهابيين، ويتبنى إلى حدِّ التطابق المقاربة التي يسوّقها رعاته وممولوه، و تلك التي يصحو فيها الرئيس الفرنسي على حلم العودة إلى شغل مركز الدولة القادرة على تحريك المشهد الأوروبي، لا يكفي للتعويل على تغيير يستطيع أن يحاكي رؤية مختلفة أو موقعاً يصبح فيه الفرنسي مؤهلاً للخروج من الدائرة المحددة له مسبقاً بإحداثيات السياسة الأميركية، وكل ما يقدمه الرئيس ماكرون لا يعدو كونه دوراناً في حلقة مفرغة، تعيد إنتاج ما هو منتج على القاعدة ذاتها والمفصل عينه، رغم الاختلاف في الشكل والتوصيف.
المحاولة الفرنسية للخروج من ربقة التبعية الأوروبية ككل للأميركيين، تحول دونها عقبات، بينما عبثية البحث عن إضافات من خارج النص تبدو مضيعة للوقت، ففرنسا الباحثة عن مقاربة تعيد بعضاً من الحراك السياسي لوجودها العقيم، ستبقى هي ذاتها المحكومة برؤية قاصرة لم تطور في أدوات السياسة، ولم تضف إلى رصيدها ما يؤهلها لتكون على نسق ما تبديه من رغبة، فحتى لو خرجت من جلدها، فلن يكون بمقدورها سد ما تواجهه من فراغ سياسي وخواء راكمته سنوات البحث عن مقعد منسي في القاطرة الأميركية، وسنوات القبول بالوقوف في طابور الانتظار على هامش المشهد الدولي.
اللافت أن الفرنسيين الذين قدموا أسوأ مثال على الحياة السياسية في الانتخابات الأخيرة، لا تعنيهم كثيراً تلك التصريحات، وليسوا في أغلبيتهم العظمى مهمومين بما ينطق به، بدليل أن تلك المواقف المستجدة في سياسة بلادهم، لا تلقى ذلك الصدى المعتاد من الفرنسيين في التفاعل مع القضايا السياسية، وبالتالي يبدو جلياً أن ثقتهم بما يطرحه رئيسهم في حدودها الدنيا، وثقتهم بمقدرة فرنسا على الخروج من طوق تبعيتها للأميركيين لا تفارق المشهد عينه، وأغلب الظن لديهم، أن ما يقوم به ليس أكثر من استدراك متأخر، أو بحث عن سبق في الخارج يتيح لفرنسا اللعب لبعض الوقت، من دون أن يضمن لها تعويضاً، ولو كان معنوياً لبعض مما خسرته في تجاربها الماضية، التي تجمع على أن الحائط المسدود الذي اصطدمت به رؤوس ساستها في العهدين الماضيين، قد أوجعهم إلى حد أنَّ رئيسهم أضاع بوصلة الاتجاهات، ما يفسر إصراره العقيم على طرق الأبواب الخاطئة، حاله في ذلك حال كل الغرب المهموم بصفقات أطماعه.