بسام هاشم :
من يلقي بالاً لمئات الحروب الجانبية، والمتوالدة باستمرار، التي تستبطن الحرب القذرة المعلنة على سورية منذ أكثر من سبع سنوات؟، ولماذا هذا التعتيم الإعلامي الذي يستهدف أول ما يستهدف الإمعان في التنكّر لحقيقة هذه الحرب وطابعها الأساسي بصفتها عدواناً خارجياً استحضر مجموعات الإرهاب الدولي لتصفية حسابات خاصة مع الشعب السوري ودولته الوطنية؟. حروب متسلسلة وصفت أحياناً بالوقائية، واستهدفت أحياناً إعادة ترسيم خطوط الفصل بين المجموعات المتقاتلة، واتخذت على الأغلب شكل المساومات تحت السلاح، أو الصراع الدموي على النفوذ، أو الإلغاء النهائي والكامل، أو محاولات الإدماج بالقوة، أو الصراع على المدنيين بهدف اتخاذهم دروعاً بشرية. هي لم تقف عند حدود الاستيلاء على الأسلحة والموارد والمرتزقة المأجورين لأهداف تعبوية ولوجستية، بل كان عليها أيضاً أن تخوض معارك ومواجهات متقلّبة ومتناقضة ولا نهائية وصلت في بعض المفاصل إلى حدود التصفية الذاتية، وكانت دائماً، وعلى امتداد محطاتها ومراحلها، “غزوات” بالوكالة رفعت راية “الجهادية” ذاتها، ووضعت السلاح في خدمة الأجندات الخليجية الوهابية التكفيرية والعثمانية الجديدة التوسعية والإسلام الأمريكي بطبعة المحافظين الجدد.
لم تكن هذه الحروب وليدة الساعة، كما نرى اليوم في إدلب الريف والمدينة، ولم تقتصر على مرحلة محددة. لقد رافقت إعلان الحرب على سورية منذ البداية، وامتدّت مع مخطط توسيع الحرب إلى مختلف المناطق الحدودية، ومن ثم إلى الداخل، لتشمل أرياف دمشق وحلب وحمص وحماة ودير الزور ومناطق البادية، وليتصاعد الخط البياني لحروب اليوم مع احتدام الصراعات بين الأطراف الخارجية الداعمة والمموّلة في أفق موازين القوى على الأرض، وما استجرته من اصطفافات سياسية جديدة. هكذا أبرمت وفُضّت الاتفاقات المعلنة وغير المعلنة مع “داعش” على مسار متعرّج من التوسّع الجغرافي والانكفاء وقرب مواجهة الهزيمة النهائية، وهكذا حملت “جبهة النصرة” تسميات متعدّدة تبعاً للتحالفات والانسحابات المُوحى بها، أو المفروضة، من الخارج، تبعاً لاحتمالات تحرّك لائحة الاتهامات الدولية بحق قطر وتركيا، على قاعدة قرارات مجلس الأمن، التي صنّفت “النصرة”، أخيراً، جماعة إرهابية، وهكذا أيضاً يناور “جيش الإسلام” بين خنادق، ويافطات، متعدّدة في إطار العمل على التطابق الكامل مع متغيّرات واستحقاقات السياسة الخارجية السعودية القلقة والمضطربة بفعل تحديات انتقال السلطة في الداخل، وعلى خلفية سياسة خارجية أمريكية متردّدة، وقيد المراجعة، بانتظار اتضاح قدرة إدارة ترامب على السير بمتطلبات الدولة العميقة.
لقد لازم الاقتتال والتناحر ولادة وصعود وهبوط المجموعات الإرهابية في سورية على امتداد سنوات الأزمة، ولكنه اليوم مؤشّر على نهاية مرحلة – إن لم يكن مؤشّراً على نهاية الأزمة – وانعكاس للتحوّلات المستجدّة التي فرضت نفسها على الأنظمة والأطراف الداعمة والمموّلة لجهة القبول الأولي بالمسار السياسي تحت ضغط التطوّرات الميدانية في سورية، والتحديات الإرهابية التي انتقلت إلى داخل بلدانها، الأمر الذي انسحب بالتوازي على مشهد الاقتتال والتناحر، ومشاريع الإلغاء والتصفية السياسية المتبادلة التي تعصف بما يسمى معارضة خارجية تعيش الأزمة نفسها، وتكتوي بنيران حسابات الربح والخسارة لدى أرباب عمل ومشغلين بدأت أجنداتهم بالتضارب بين الاستمرار في صراع خاسر محكوم بتبعات وارتدادات إضافية باتت بغنى عنها – حالة سلمان السعودية – أو ركوب عربة الحل مع ما ينطوي عليه ذلك من المجازفة الأكيدة بـ “المصداقية” الإيديولوجية الإخوانية، على الطريقة الأردوغانية المريضة بلوثة العظمة، والقطرية المتخفّفة من أوهام الأدوار المشتراة بالفوائض المالية، بالطبع!.
في سياق عملية متمادية من التآكل والذوبان، تخوض فصائل الإرهاب الدولي المشغّلة في سورية اليوم آخر حروب السباق على ما تبقى من حظوة مالية وسياسية للأطراف الداعمة. إن واقع الاندحار على الأرض، ومشاعر الإحباط ومرارة الإحساس بالتخلي يعزّز لديها رؤاها القيامية ويجعلها أشد شراسة ودموية وانتحارية. وهاهي، أمام خياراتها الضيّقة والمحدودة، تتخبّط بين محاولات فردية متزايدة باستمرار لحزم الحقائب والهروب بالأرصدة، وبين الإمعان بالغرق في اجترارات سوداوية عن “الفرقة الناجية” بما يقودها إلى المزيد من التقاتل والتحارب، في عودة سافرة واضطرارية، وبلا برباغاندا داعمة هذه المرة، إلى حقيقتها الأولية والأساسية كأدوات للقتل والإجرام وعصابات مستأجرة وحثالات تقتات على العنف والكراهية المتبادلة. ولاشيء جديداً فهذه المجموعات كتائب للموت الأعمى وهي لا تملك أساساً أية قضية.
“الحفل الجهادي” في سورية يقارب على الاختتام، وسيسدل الستار على فصوله البشعة والدموية. إن منابع التمويل تكاد تجف والصنابير تكاد تغلق، ودهاقنة الإرهاب العابر للحدود يبحثون عن خروج آمن و”مشرّف”. وفي ربع الساعة الأخير، لا عزاء لأولئك الذين غرّر بهم سلطان الأزمنة البائدة ولا القرضاوي ولا مشايخ الفتنة في السعودية.