لقد فعلها الأحمق ووفى ـ على حدّ زعمه ـ بوعد كان قد قطعه أسلافه قبله ولم «يبرّوا به»، ودائماً واظبوا على تأجيل قرار الكونغرس المتعلق بنقل السفارة الأمريكية والاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، ليس لأنهم لا يملكون الشجاعة، كما ادّعى ترامب، بل لأنهم كانوا يدركون دلالات البعد الرمزي لفعلهم السياسي وتداعياته التي لن تتوقف عند لفظهم الفريق الفلسطيني المفاوض، ونسفهم دور الوسيط الذي كانوا يمارسونه -حسب ادّعائهم- في مفاوضات السلام، ولا عند دفنهم مشروع دولة فلسطينية على خطوط الرابع من حزيران، لقد كانوا يدركون أن قراراً بحجم إعلان القدس «عاصمة لإسرائيل» سيكلفهم فتح ساحات مواجهة، مصالحهم في غنى عنها..
فكيف تجرّأ ترامب، اليوم، وكسر التقليد ونعق بصيغة القرار اللامسؤول؟
هل لأنه «صاحب عقيدة ورجل نزيه يهمه ربط أقواله بالأفعال»؟ أم إن «ذيل» الولايات المتحدة الأمريكية كسر القاعدة وصار اليوم هو من يحرك «الرأس» الأمريكي؟ أم إن الواقع العربي هو من أوجد التربة المناسبة لتحقيق هدف أمريكي في «مرمى» خالٍ من أي حارس عربي؟
لطالما كانت الإمبراطورية الأمريكية هي «الرأس» تحكمها كارتلات ثلاثة (المال- العسكر- الصناعة) و«إسرائيل» «الذيل» كيان وظيفي تهشّ به مصالحها في الشرق.
وقرار ترامب اعترافه بالقدس «عاصمة لإسرائيل» ليس فقط بسبب المناخ السياسي داخل أمريكا، ولا بسبب «المباحثات الاستراتيجية» حول السلام في المنطقة، ولم يكن بضغط يهودي، وإنما،وحسب تحليل جورد أدامز- خبير السياسة الخارجية في الجامعة الأمريكية (إن الرئيس الأمريكي يتحرك على أساس داعميه)! ولابد أن المقصود هنا بـ(داعميه) يمكن أن يشمل بعض الحكام العرب الذين ساهموا في خلق مشروع «الخريف العربي»، ليأتي اليوم رجل أحمق مثل ترامب ويقطف ثمار الخنوع والاستزلام والتواطؤ العربي ويقدمه هدية، لم يجرؤ أسلافه على تقديمها للصهاينة المعتدين.
وها هو «عامود يادلين» رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية للكيان الصهيوني الأسبق، يبارك فعلة ترامب قائلاً: «إن الفلسطينين والعرب والأتراك يهددون بمسدس فارغ لأنهم مشغولون بقضايا الصراع بين السعودية وإيران واليمن ولبنان..»
ولأن الكلب أذكى من ذيله، وهو الأقدر على تحريكه وليس العكس، ساهمت أمريكا بتجنيد بعض الحكومات العربية «لمساعدتها» في تقديم هدية عربون استسلام وخنوع للسفارة الأمريكية، وبدورها، وتعبيراً عن السعادة ستهز «إسرائيل» الذيل ممنونة.
قبل مايقارب ثلاثة أسابيع بالضبط، كان السيد الرئيس بشار الأسد قد اجتمع في دمشق بالقوميين العرب، وقد حذر في حواره معهم من تراجع الانتماء القومي وخطر ذلك على القضية الفلسطينية موضحاً أن تصفية القضية أمرٌ سيحصل إن لم يتم تعزيز الانتماء لدى الشعوب العربية، و«إن ضرب الانتماء القومي يعني ضرب خطّ الدفاع الأول الذي نمتلكه كمجتمع بهدف تحويلنا إلى مجرد آلات مسلوبة الإرادة، نتحرك حسبما يخطط لنا في الخارج»، وهذا ما فعلته بعض الحكومات العربية وعبر «الجامعة العربية».
واليوم، وبعد القرار الأمريكي الطوباوي المسعور، فإن المطلوب ـ حسب رؤية السيد الرئيس بشار الأسد ـ العمل على تكريس الانتماء كحالة وعي وليس مجرد شعور، وأن يتم وضع خطط واضحة للعمل القومي، فمستقبل القدس لا تحدده دولة أو رئيس، بل يحدده تاريخها وإرادة وعزم الأوفياء للقضية الفلسطينية.