من يظن أن الأزمة في سورية قد اقتربت من الحل ولو قليلاً مع إسدال الستارة على «جنيف2» يكون متفائلاً كثيراً، فهناك عشرات العراقيل والهجمات المضادة لمنع قطار الحل من التحرك ظهر منها حالاً وعلى الفور، تزامناً مع الجلسات، القرار الأمريكي باستئناف تسليح المجموعات الإرهابية بأسلحة متطورة وأكثر بكثير من الأسلحة السابقة كلها، ويبدو أن المخفي والقادم أعظم لنسف الحل السياسي والاستدارة مرة أخرى نحو المزيد من عسكرة الأزمة، أو بالأحرى سلوك طريق الحل العسكري لسبب لا يغيب عن ذهن أي متابع وهو أن الإدارة الأمريكية مازالت ترى الأزمة في سورية بعيون التيار التكفيري الوهابي السعودي القائل: إن السعودية لا يمكن أن تتحمل خسارتها في سورية ولو كلفها ذلك كل ثرواتها التي لا تأكلها النيران..
إن القرار الأمريكي في مضمونه وتوقيته وسرعة تنفيذه -إذ وصلت الدفعات الأولى من الأسلحة الأمريكية إلى أيدي الإرهابيين في الأردن وباب الهوى- ما هو إلا دليل على أن إدارة أوباما عادت لعقد صفقة جديدة مع السعودية قوامها تخريب الحل السياسي وإعطاء زخم جديد للمجموعات الإرهابية لمواصلة طريق الإجرام وارتكاب الفظائع والجرائم بعد أن استطاعت مملكة الإرهاب المنظم توحيد معظم تنظيمات «القاعدة» في جبهة إرهابية واحدة لقتال الشعب والجيش السوري والادعاء بأن هذه الجبهة معتدلة، وتحارب الإرهاب في سورية، وأن الأسلحة الأمريكية «توجه إلى جهات معتدلة» في سياق أكذوبة كبرى ومفارقة غريبة من راع لمؤتمر السلام في جنيف يعمل كداعم علناً بالسلاح للإرهابيين..
قد يكون هناك «جنيف3 و4 و5».. الخ، ولكن مع هذه «الجنيفات» كلها لن يتوقف الدعم السعودي الكامل للإرهابيين لأن مملكة آل السعود تعدّ معركتها في سورية معركة كسر عظم، وطريق «جنيف» لن يوصل أدواتها العميلة إلى كراسي الحكم في دمشق، وهو الهدف الأول والأخير لحربهم المجنونة ضد الدولة السورية، ولذلك، كان «جنيف2» في نظرهم طقساً إعلامياً احتفالياً لا يقدم ولا يؤخر إذا لم يكن منصة «لاستلام وتسليم السلطة» لهذه الأدوات على مرأى ومسمع من دول العالم وهو ما يفسر إصرارهم على البحث في بند واحد ووحيد هو «تشكيل هيئة حكم انتقالي» بصلاحيات كاملة يكون فيها الجيش والأمن تحت قبضتهم، ومن ثم تتسلم عصابات ما يسمى «الجبهة الإسلامية» التي جهزها المال السعودي منذ مدة على الساحة لتحكم البلاد والعباد في سورية بالشريعة الوهابية التكفيرية الظلامية، لأن هذه الأدوات لا تملك شيئاً على الأرض، وتكون قد أدت وظيفتها وتكون صلاحيتها قد انتهت..
ومع استحالة تحقيق الأحلام السعودية المريضة في «جنيف2» وتفوق الدبلوماسية السورية في هذا المؤتمر عاد التركيز على تدفق السلاح الأمريكي بالتمويل السعودي أملاً بإنجاز عدة أهداف دفعة واحدة وطبقاً للاحتمالات الآتية:
– احتمالات بتبدل موازين القوى أو بعضها على الأرض بوساطة هذه الأسلحة ويكون هذا التبدل من أوراق التفاوض القوية إذا كان هناك «جنيف3» أو كلما عاد جنيف للانعقاد.
– احتمالات أن يكون دور الأردن قد جاء بإدخال السلاح الأمريكي المتطور لفتح معركة كبيرة في الجنوب تبدأ من الحدود الأردنية- السورية وتصل إلى مشارف العاصمة دمشق لممارسة أقصى الضغوط.
– احتمالات تقوية عصابات «الجبهة الإسلامية» الإرهابية تحت الذريعة الأمريكية بتسليح «المعارضة المعتدلة» لتكون جاهزة للحضور في أي مفاوضات قادمة، بدلاً مما يسمى «الائتلاف المعارض» الذي ينتظر تسريحه بعد انفضاض «جنيف2».
– احتمالات تحضير الأجواء لتعطيل الحل السياسي في جنيف المرة تلو الأخرى ليكون هناك طريق وحيد وهو العودة إلى مجلس الأمن للتدخل العسكري تحت الفصل السابع، وهو ما تحلم به «المعارضة» العميلة التي نشأت وترعرعت في كنف الاستقواء بالخارج ولا تتصور وصولها إلى الحكم إلا بتكرار السيناريو الليبي.
لا تفسير لقرار الكونغرس الأمريكي بإعادة تسليح العصابات الإرهابية سوى أنه انقلاب أمريكي على الحل السياسي في سورية، وتماهٍ مع الرغبة السعودية في استمرار سفك الدم السوري وتدمير الدولة السورية تنفيذاً للمشروع الصهيو-سعودي في المنطقة، والسؤال ما حظوظ هذا الانقلاب من النجاح؟ وتالياً ما حظوظ الهستيريا السعودية في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟
لا يبدو الانقلاب الأمريكي على جنيف كاملاً حتى الآن، ولكن الإدارة الأمريكية ترى فيه مجالاً واسعاً للابتزاز وللاستثمار السياسي، ولاسيما في الاستفادة من التجييش الوهابي التكفيري المذهبي لمصلحة أهدافها في المنطقة، ومن هنا كانت عملية إعادة إنتاج تنظيمات القاعدة بتنظيم واحد مسلح بالأسلحة الأمريكية تحت مسمى «الجبهة الإسلامية» وبرعاية سعودية كاملة لاستخدامها في محاولة قلب الأوضاع الميدانية في سورية، وفرض الشروط السياسية في مؤتمرات جنيف القادمة.
لكن حسابات الحقل لا يبدو أنها قابلة للتطابق مع حسابات البيدر في الميدان ولا في أروقة مؤتمرات جنيف، فالعقل الوهابي السعودي المصاب بالغباء أولاً، وبمرض التوحد ثانياً، لا يمكن أن ينتج سوى العقم وتكرار الفشل، فهو قد جرب مرات ومرات بعد اندحار قطر وأردوغان، وحاول عن طريق التمويل والتسليح والهجمات الإجرامية لقطعانه الهمجية المتوحشة في أكثر من منطقة في سورية، وارتد على أعقابه، لكنه بعد ثلاث سنوات من الصمود السوري المدهش واستحالة أي تدخل خارجي لا يبدو أن هذا العقل الأحمق الحاقد قد تعلّم الدرس الكافي وأدرك حقائق التاريخ والجغرافيا السورية، لذلك نتوقع أن يركبوا رؤوسهم ويعودوا إلى العسكرة والتسليح وخيارات الاستقواء بالسلاح الأمريكي من أجل المزيد من القتل والتدمير وسفك دماء السوريين، لكن هزيمتهم ستكون مدوية هذه المرة، ولن يحلموا أو يتمكنوا من أي نصر أو غلبة لمشروعهم الظلامي التكفيري على الأرض السورية، وهناك سوري واحد على قيد الحياة..