نهلة سوسو:
أتأمّل وجهه الوسيم بابتسامته الواسعة المطمئنّة، وأنا فريسة شتّى التداعيات: منذ فجر التاريخ والإنسان يبحث عن أسرار الكون وينكبُّ على أدواته في الخلاء والمخابر والمراصد والفرَضيّات، يفكُّ الألغاز ومعها يأتي ما لم يكن في الحسبان من مصادفات التراكم المعرفيّ! تحت سطوة عينيه الثابتتين على وجه المصوّر الذي التقط الصُّورة في لحظة مرح عابرة، راحت الصُّور تترى: اكتشاف النار التي أنضجت مسيرة الإنسان, اختراع العجَلة التي غيّرت حركة التّاريخ البشريّ, رصد المجرّات والكواكب في كبد السّماء واستئناسها بالأسماء لكأنّها على بُعد ذراع من قبّة المرصد, الغوص في أعماق البحار لانتزاع أسرار أحيائها, كلُّ هذا الذي لا يعجزه سؤالُ فضوليٍّ أو طالبِ معرفة، فيروح يقدّم أجوبة مختصرة أو ضافية، مكتوبةً أو شفويّة، من أجلها افتُتِحَت المدارس والجامعات، وأُلّفت الكتبُ والموسوعات، لكنّ كلَّ هذا يتنحّى أو يختفي لحظة رصد ابتسامة العينين الثابتة في الصّورة، الزّائلة من صخب الحياة! بعد لحظة التصوير صار الحدث! بعد تلك اللّحظة التي قبضت عليها الكاميرا، كان «باسل» وسط جحيم من آليّاتٍ منفلتة، معبّأة بحقد قرون ومجرمين عتاة، وقذائف موتٍ وتدمير، تفتح مراوح لا نهاية لها على الأبرياء الآمنين، وهو يعرف وجود هؤلاء الأبرياء خلفه من دون أسماء ولا ملامح ولا أعمار، لكنّه يحدس أنهم يحتمون به ويهدّئون أطفالهم باسمه، في جحيم، أثقل العدوُّ أرضه وسماءه بالحديد والنار! تحترق الآلية الأولى والثانية فالثّالثة وتبقى الرّابعة التي إن عبرت وأصابت هدفها صدّعت جبهة منيعة واخترقت خاصرة حلب! و«باسل» أصيب في كتفه لكنّه يتقدّم بـ«كلّه» قامةً وذراعين وكتفين ودماً وروحاً وينفجر إعصاراً في المفخخة، لا يبقي منها شيئاً ولا يذر!
لا تكفّ العين عن معانقة الصورة التي تعدّدت مع مرور السّاعات! صورة مع السّلاح، صورة قبيل اجتماع الصّباح، صورة على شاطئ البحر، والزّيّ متغيّر لكن الابتسامة الرّاضية هي نفسها، وتأسر النفس رغبةٌ كتلك التي تتملّك المحب في ذكر محبوبه الدائم: قرفول، من القرنفل؟ هل «قرفَل» أي طيَّب الطعام بأطيب رائحة تنشر شذاها مهما كان عودُها صغيراً؟ أما ترك شذاه في حيّ الزهراء في حلب حتى إذا مرت دقائق، عصف كالإعصار في هواء سورية ونسيمها وخَفْق قلوب أهلها؟؟ يهون هذا السؤال عند السؤال الذي استعصى على أعلم العلماء: -ما الذي شعر به «باسل» لحظة أوقف المفخخة بجسده وروحه وانفجر كإعصار من نار ونور وشذى.