د. نهلة عيسى:البعث
لا أعرف لماذا تكره الناس كلمة “أنا”!؟ لكن “أنا” لم أكن يوماً بالمعنى المتوارث امرأة شرقية.. أنا فقط أشبه بحفنة رمل هاربة من بين الأصابع المريضة بحب التملك، أهيم على وجهي في وادي الحياة، وأنبش الأرض والوجوه بأظافري بحثاً عن معرفة، وعن نبع اليقين الذي لطالما توهمت الوصول إليه، ثم ألفيت نفسي في بحر من الكوابيس والأقنعة، وآلهة من تمر، وهشاشة كل الأشياء الجميلة، وظل الموت المتربص بنا بلا حق في تمييز أو استئناف!
أنا لست شرقية، لكني سورية، والحرب التي تعتقلني أنهت زمن الطقوس، الياسمين، والموسيقى، والكتاب، والليل، وذاك التوق الغامض إلى أول فراشة طاردها القلب، وأول نجمة ناجتها العين، وأول أمنية احترقت، والحلم الذي أخاف أن يتحقق، لأنني أريده أن يظل حلماً كي لا أفقده ويستحيل خيبة! ولذلك والأصفاد في يدي رسمت لنفسي يقيناً يتيح للحب أن يستمر بالتدفق مني، لأنني سأموت إن توقفت عن الحب، وهذا ما تريده الحرب، ولم يكن ممكناً أن أسمح للحرب أن تريد ما لا أريد. وقررت أن أرتدي يقيني قميصاً مضاداً للرصاص، وغضبي مانعاً للخوف، وأن أربط علم الوطن على طرف قلمي ولساني وخطواتي، لتنهض حروفي وكلماتي وأقدامي من عرجها، ولتركض على السطور والطرق متحاملة على الوجع، ومتجاوزة كل قدرة على اللحاق بها، لترسم على بياض الورق وبياض القلوب اسماً جليلاً، مهيباً، منيعاً على زبانية هولاكو وجنكيز خان، ومحاكم التفتيش، وعصياً على الهزيمة: الجيش العربي السوري.
وكان يقيني المرسوم (الجيش) هو من حطم الأصفاد وأتاح لي الهرب من قبضة الحرب وأنا في الخط الأول للحرب، لأنه كان الشمس التي أكدت لي أن سلاح جيشنا جواب لقسم بحماية الوطن في البر والبحر والجو والرب شهيد، واستجابة لنداء راية النجمتين، وترديداً لصدى صوت امرأة من ألف عام نادت: وامعتصماه، فرددت الجبال الصدى بعد ألف عام، واستجاب له الرجال!
لست شرقية، ولكن يقيني المرسوم (الجيش) أصبح مقصد مشاوير فخري لرد أقل القليل من الجميل لرجال يذهبون إلى الموت، كي يخرج الموت من بلادنا، وأصبحت تلك المشاوير أغنيتي الفيروزية في صباح يتوسل الدفء من القلب، وأصبحت الضوء الذي يغسل عن العين رماد الخيبات، ويغلفها بحرير الأمل، ويدفعني حين ألتقيه لنسيان الحرب، ولانتظار موعد مع الفرح قريب، للحديث عن النجوم والأزهار، وعن الأطفال، وعن شابة صغيرة كنتها، عادت للوطن لتعيش فيه، فتهدم أمامها الوطن!!
لست شرقية، ولكن يقيني جعلني بنت وأخت وأم وصديقة كل الشهداء، الذين لم يعودوا أصدقاء أحد، رغم أن شهادتهم دليل على أنهم أصدقاء كل أحد فينا، والذين لن يقرأ أحد منا قصة حياتهم القصيرة الجليلة، رغم أنهم ميزان الوطن، والبداهة النقية وسط غابة من كلمات متقاطعة مسمومة، بات فيها فعل “أعارض” وبراءة الأطفال في العينين، مرادفاً لفعل “أذبح، أنهب، أبيع”!!
لست شرقية، ولكن يقيني صيرني رفيقة الجنود في الجبهات، هؤلاء الذين رغم كل العناء، ومقارعة الموت كل لحظة على الجبهات، هم بشاشة وجه الوطن يضحك من عتم الليل، وألفة تصطاد النحل والضباع الشرسة، حيث الفداء جوهر هويتهم، وتحصين لغد الوطن من همجية عصر التتار الملعون، وحيث الإرهاب والقرصنة والقبح جوهر خصومهم.
لست شرقية، ولكنني أستمد الفرح من الرجال الذين باتوا موسوعة البلاد: أسماء السوريين، أسماء النبات، أسماء الأنهار، الأشجار، وعنوان كل حجر، ومواضع جذور الصبار، وحدود البحار، وحيث علي لصيق عمر، ومحمد بشارة يسوع، وحيث لا أحد يمن بالصبر على الوطن، وحيث هؤلاء الرجال يجعلوننا، حيث الـ “نا” ربما لا تدل على الجمع، ولكنها حتماً تدل على الكثرة، نفخر بأننا سوريون.