بسام هاشم
في الاجتماع الدوري الموسّع الذي تعقده وزارة الأوقاف للسادة العلماء والعالمات، في جامع العثمان بدمشق، دشن السيد الرئيس بشار الأسد الأساس النظري لما يمكن أن نسميه – بكل صدق- “علم الاجتماع السوري” في أفق عودة النهوض بعد عشر سنوات من حرب جهنمية، أو ما يمكن أن نصفه بـ “النظرية العربية السورية” في إعادة بناء الدولة الوطنية المتمسّكة بخياراتها الوطنية والقومية.. وليس في الأمر أدنى ادعاء، أو مبالغة، أو تجاوز على المعرفة، فمن خلال ما يزيد عن ثمانية آلاف كلمة، وعبر محاور رئيسية وفرعية شديدة التداخل والتشابك، ومن خلال التنقّل الرصين والمحكم ما بين الفكري والعقائدي، والديني والفقهي، والأخلاقي والسلوكي، والفلسفي والإيديولوجي، والتاريخي والمعاصر؛ وما بين قضايا اللغة ومسألة الذات والهوية، وصولاً إلى مقاربة آليات السيطرة والتحكّم الغربية بالمجتمعات غير الأوروبية، قدّم الرئيس المثقف، العلماني، المؤمن، الموسوعي في قراءاته ومعارفه، المتنوّر في استنتاجاته، ما يمكن اعتباره بحق الخلاصة الأمينة لممارسة سياسية يومية اشتغلت – طوال عقد من الزمن – على خطوط السياسة الدولية عالية التوتر، فتمكّن من حماية وطنه، وأبناء بلده، وهويتهم، في خضم مواجهة مباشرة مع أعتى إمبراطورية، صنّعت وقادت تحالفاً قذراً من أكثر من80 دولة، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تركيع سورية والوطنيين السوريين، في النهاية.
ومن جملة إلى جملة، ومن نقطة إلى فاصلة، لم يكن القائد الأسد ليكف عن إدهاشك وانتشالك من سكينتك، ولربما من استسلامك للقناعات الخائرة والمتوارثة؛ يوقظ الحقائق الغافية، ويحرّض الذاكرة الشخصية والتاريخية، يذهب بك الى البعيد المتواري خلف المسافات الزمنية المتراكمة لتجد نفسك أخيراً داخل.. ذاتك. هنا، حيث عليك أن تعاود البدء من جديد، لتتعرّف إلى كينونتك الحضارية، ومركباتك الدينية، وحتى الجغرافية، ولتكتشف أن حالة الاستلاب التي كرّسها الغرب الأوروبي والأمريكي، ووكيله المحلي – ممثلاً على الأخص في الإخوان المسلمين والأنظمة التابعة والعصابات العميلة – في صميم مجتمعاتنا – منذ بداية القرن الماضي على الأقل – إنما أوصلت هذا الشرق، والعربي منه في المقدّمة، إلى واقع من الشقاء والاغتراب عن الذات والتناقض، بحيث بتنا جميعاً نؤمن بـ “إسلامهم”، ونسخّره “ضد أنفسنا” خدمة لمصالحهم.. والمحصلة: إسلام مختطف من قرن تقريباً تحوّل من مقاوم للاستعمار إلى مستدرج عروض للتدخلات الخارجية، و”تشجيع الآخرين على الاعتداء علينا”، والتآمر على نزوع المسلمين إلى الانعتاق والتحرّر، بل وإلى أداة لسياسات وأيديولوجيات التطهير، الطائفي والمذهبي والمناطقي، تحّكها الأنظمة الرجعية. وبدلاً من أن يكون الدين الذي أنزل خدمة للمجتمعات لكي تتطوّر، استخدم هذا الدين لكي يكون أداة لتخريب مجتمعاتنا!
فنّد الرئيس الأسد مغالطات كثيرة، دينية وعقائدية، تهيمن على السلوك والتفكير الشائع، وأجرى نوعاً من جولة أفق من ارتفاع شاهق حول الشرق، والعروبة، والإسلام، والمسيحية، والحاجة الى الدين كقوة دافعة موحّدة. ومن خلال منطق سهل وبسيط، ما ميّزه بالضبط أنه عفوي وصادق، وشجاعة فكرية خاضت في الدنيوي والمقدّس من موقع المؤمن العارف، تساءل كيف يجوز للمسلمين أن يتبعوا الرسول في العقيدة ويخالفوه في السلوك؟ وكيف يمكن للبشري أن ينصر الإلهي؟ لقد جسّدت هذه الإحاطة المتعدّدة الأبعاد والطبقات، بالضبط، المعنى العميق لأن تكون رجل سياسة، وقبلها أن تكون رجل دولة من طراز استثنائي، وقبل كل شيء أن تكون قائداً مدركاً لأهوال الصراع بين حدي الحياة والموت، وأخيراً أن تكون قائداً منتصراً، حصّلت القدرة على الانتصار، وكسرت إرادة عدو موغل في إجرامه ودمويته، وذلك من خلال تجميع آلاف الأوراق المضيئة، الصغيرة، والمبعثرة على امتداد تاريخك وعقيدتك، وأيضاً من إيمانك وثقتك بوطنك ومستقبل شعبك.
إنه الشرق الذي يحتاج إلى الدين، وليس الخروج منه.. يحتاج إلى المقدّس، ليس لتغييبه عن واقعه – كما يتراءى للبعض – بل لتجميع القوى وتحشيد الطاقات، والوقوف في “الوضع الصحيح” – مثل أي عسكري يريد أن يكسب الحرب – لمواجهة واقع الانفلاش والتشظي والتحلل الأخلاقي والمجتمعي، وأيضاً مواجهة التغريب المعرفي، وهجمة وسائل الاتصال الاجتماعي، فالإسلام قوة خلّاقة وهو لا يمكن أن يكون تهديداً.. إنه مكوّن بنيوي في ثقافتنا يجعل من الصعب على هذه المنطقة أن تقبل الاستسلام والرضوخ والهيمنة الأجنبية، فهناك “تعارض بين المصالح الدولية وبنية مجتمعاتنا، سواء كانت البنية بالمعنى الاجتماعي البحت، أو البنية بالمعنى العقائدي”.
كشف الرئيس الأسد زيف التعارض بين الدين والعلمانية، وحدّد أن “مصالحنا لا تنفصل عن عقائدنا، لأن العقائد أنزلت من أجل المصالح”، وذلك في تخط فكري وفقهي من شأنه أن يعيد للممارسة الدينية اليومية انسجامها الروحي والأخلاقي، فالدين لا يعرف إلا في مقاصده، كذلك لا يمكن تخيّل الدين الإسلامي من دون الدور المركزي للعرب. فالإسلام ليس ظاهرة تاريخية، بل هو مكوّن روحي مرتبط بهذه المجتمعات، والإسلام ليس قوة تعطيل، بل هو مكوّن جوهري في وجداننا الجمعي، وقوة دافعة وخلاقة وموحّدة. والشرق مستهدف بعقائديته، والتخريب والتقويض طال كل ما هو روحي ديني في منطقتنا، ولم تكن المسيحية بمنأى عن هذا الهجوم؛ وكما يسرقون الإسلام العربي اليوم في إطار هجمة توسعية تستهدف إحكام الخناق على الدول العربية الرئيسية، كان هناك من سطا على المسيحية العربية بهجمة قروسطية انتقلت بها من مشرقيتها الروحانية إلى مصاف الإيديولوجيا الاستعمارية .
عندما يطرح الرئيس الأسد السؤال: “كيف نتصدّى؟ وأين يبدأ التصدي؟”، فذلك يعني أن قرار المعركة قد اتخذ.. وأن علينا تحويل الغضب الى طاقة منتجة، وإلى نقاش وحوار وأفكار وخطط، إلى “خطة عمل”.. والمسلم لكي يكون مؤمناً حقاً يجب أن يكون وطنياً وقومياً يرفض الاعتداء على أبناء وطنه ودينه، فكيف إذا كان يشارك في ذلك!!