إنه الضوء . نهلة سوسو

لا أدرك ولا أفهم الأمواج المتوالدة من نصٍّ أدبي إلّا إذا عرفتُ كاتبَه: اللغة الأم، العصر الزمني، البلد، الحوارات التي أجراها عن قضايا الإنسان في كل العصور، لأن النصّ لا يفصح بوضوح تام عن الكاتب في بحر المجاز وسعة التأويل !

حين صادفتُ الكاتب الفرنسي ” جان ماري غوستاف لوكليزيو” في شعاب القراءة الواسعة المتفرعة عن الرواية العالمية المترجمة، لم أحسب أنني سأعثر على شيء يميزه عن غيره من الروائيين الكبار خاصة الذين فازوا بجائزة “نوبل” فهؤلاء يحصلون على “جنسية” خاصة تتجاوز جنسيات الشعوب القومية، ويحتفي بهم النقّاد بعد أن تعطيهم لجنة الترشيح العلامات العالية ويتلقفهم المترجمون ودُورُ النشر وفيما بعد جموع القراء، لكنني شعرت بأنفاسي تتردد وقلبي يخفق حين قال: “- يجدر بنا أن نضع علامة حمراء ناحية القلب على كل تمثال للتذكير بأنه في كل لحظة في مكان ما، في فلسطين وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، هناك طفلٌ يموت بطلقات الرصاص، ما من أحدٍ يتكلم عن هذا الأمر أبداً” .

ما استوقفني هو ذكر فلسطين! هل فلسطين تحتاج لاعتراف من كاتب أجنبيّ؟ لا! إنه ليس الاعتراف، بل الصوت القادم من ثقافة جَمْعيّة كثيفة النسج من الأكاذيب لطمس فلسطين من خرائط الأطالس واعتبار أهلها من بقايا رعيان اندثرت أصولهم، ومن أجل ذلك سُنّت قوانين تُجرّم من لا يُسلّم بأقبح رواية صيغت في التاريخ ليحلّ شذاذ آفاق مكان أعرق الشعوب، وجُرّد علماء ومفكرون من ألقابهم وحرموا من منابرهم لأنهم شككوا مجرد تشكيك برواية “شعب الله المختار”، وكم سقط كتّاب متعدّدو اللغات في أحابيل هذه الثقافة ومنهم كتّاب عرب، وهذا لعمري منتهى الخفة في استخدام القلم وتقييم نبله في مواجهة بشاعات البشر حين يظلمون ويقتلون ويكذبون! .

الفرح الذي أشعر به حين أعثر على صوت أجنبيّ واضح بإنصاف الشعب الذي مازال ينزف جراحاً منذ أكثر من سبعين عاماً كي لا يختفي ويحمل صفة: شعوب سادت ثم بادت، هو فرحٌ تلقائي لا صنعة فيه ولا استجرارٌ بوهمِ: الأنابيب ضيقة لكنها تقطر ماء شحيحاً، خاصة حين أمضي إلى ما بعد تبنِّي “لوكليزيو” لأطفال فلسطين في مواجهة القتل لأنه كتب روايةً بعنوان “نجمة تائهة” وفيها فصل “مخيم نور شمس” تناول مأساة اللجوء الفلسطيني عام 1948.

كان الكاتب دائم الترحال كما تقول سيرته، وفي هذا الترحال رفع صوته ضد الاحتلال الأمريكي الذي وظف فتيات تايلاند في بيوت الهوى وعمل على إحياء تراث الهنود الحمر في المكسيك وبنما، ومن يتبنى القضايا الإنسانية لا يمكنه المرور فوق فلسطين كأنه طائر أعمى كما فعل الكثيرون حين جعلوا مواقفهم انتقائية وأسهموا بمشيئة وليس بغير مشيئة في اختلال هذا العالم..!

اخبار الاتحاد