قصة عشتار مع قذيفة الهاون: أكبر من ألم.. وسخرية

صفير يصمّ الآذان، ودماء تسيل من انفي، حرارة حارقة في قدميّ اللتين كانتا شبه مقطوعتين وأنا عاجزة عن الحركة، أول ردة فعل قمت بها بعد الذي رأيته هي الضحك، قلت في نفسي يا للسخرية !! تخرّجي بعد أربعة أيام لا يمكن أن تكون هذه هي النهاية.. بهذه الكلمات تبدأ عشتار الأحمد سرد قصتها التي انتهت منذ مدة وجيزة بعودتها إلى المشي بعد أن منعتها الإصابة بقذيفة هاون من ذلك لما يقارب العام. شهران في المستشفى وثمانية أشهر على الكرسي المتحرك، وصلت خلال تلك المدّة إلى عتبة الألم، لا أتوقع أن هناك أسوأ مما مررت وأحسست به».
سماع صافرة القذيفة قبل سقوطها وصوت الانفجار الذي تحدثه بعد السقوط هي أحداث اعتاد سكان دمشق سماعها والتعاطي معها كأمر شبه عادي وهذا ما حصل مع الفتاة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً عندما كانت تأخذ قسطاً من الراحة على شرفة منزلها الكائن في أحد أحياء دمشق القديمة.
تقول عشتار، خرّيجة كلية الفنون الجميلة وإحدى أعضاء فريق يلا عالبسكليت التطوعي «كان الحادي عشر من أيلول عام 2015 يوما عادياً جداً، اذكر أنني كنت منشغلة بالتحضير لمشروع التخرّج وحيدةً في المنزل بينما كان والدي في حمص وأمي في السوق.. كانت الكهرباء مقطوعة، سقطت القذيفة الأولى في الحي، صوتها القوي والقريب دفع فضولي لمعرفة مكان وقوعها، وفي هذه اللحظات سقط صاروخ ثان في غرفتي».
كانت عشتار تروي تفاصيل الحادثة بكثير من الدقة وكأنها لم تفقد الوعي حتى لثوانٍ طيلة الفترة الزمنية التي استغرقتها عملية وصول جيرانها إليها وخروجهم من الحي وحتى الوصول إلى الإسعاف في المستشفى لدرجة أنها كانت تعي أنها يجب ألا تفقد وعيها حتى لا تدخل في غيبوبة أو تفقد حياتها في الطريق، وأن أول جملة قالتها لأمها عندما رأتها في الإسعاف «لن أموت.. سأتخرّج» وهذا ما كررته على سمع الطبيب المسعف الذي استفزّها بدوره وقال لها «كان تخرجك بعد أربعة ايام»فتجيبه عشتار: «وما زال… بتشارط؟!!»
شظايا بكامل الجسد أصعبها وأخطرها في منطقة البطن وبجانب وريد دموي وفي العين، بالإضافة لكسور عدة في العظم وتهتّك في لحم الجسد وخاصة القدمين، كانت هذه حصيلة جراح الفتاة التي أصرّ أساتذة الجامعة المشرفين على مشروع تخرّجها على الحضور إلى المستشفى وتحكيم مشروعها لإتمام التخرج.
الحرب التي تحصد الأرواح ولا تزال الصبية السمراء، سورية الملامح والطباع واحدة من عشرات الضحايا التي طالتها أذيّة قذائف الهاون العشوائية في العاصمة دمشق، وهو تكتيك يستخدمه المسلحون لاستهداف دمشق وضواحيها منذ نهاية العام 2012، بعد أن دخلت معظم مناطق الريف الدمشقي على خط المعارك بين الجيش السوري والتنظيمات المسلحة وما زال هذا السلاح يحصد الأرواح ويوقع الجرحى حتى اليوم.
وبحسب صفحة التواصل الاجتماعي «يوميات قذيفة هاون في دمشق» المتخصصة بتوثيق قذائف الهاون، فإن ما يزيد عن خمسة آلاف وخمسمئة قذيفة سقطت على العاصمة السورية خلال سنوات الحرب، بشكل متفاوت بين عام وآخر، حيث بلغت ذروة القصف أواخر العام 2013، وذهب ضحية الاستهدافات آلاف الضحايا والجرحى، كانت عشتار واحدة منهم، ليهدأ قصف الهاون نسبياً خلال فترة وقف العمليات القتالية
التي دخلت حيز التطبيق بدءاً من الساعة 00:00 (بتوقيت دمشق) في 27 شباط من العام الحالي 2016، بعد أن أعلن أطراف النزاع السوري التزامهم بتطبيق هذا القرار وتبنّي شروطه، إلا أن قذائف الهاون لم تتوقف بشكل كامل، حيث استمرت بالتساقط بشكل غير روتيني، وبأوقات متباعدة.
طعم الحياة الجديدة
تحاول عشتار اليوم بعد أن اجتازت المرحلة الأصعب، توظيف اختصاصها الأكاديمي بتصميم بوسترات وتصاميم تعبيرية تتعلق بالهاون نفسه أو الوضع الميداني بشكل عام، وهي تحضّر الآن للمشاركة في معرض فنّي يفتتح في لبنان وينتقل بعدها إلى فرنسا وسويسرا، وستكون مشاركتها من خلال لوحة زيتية تعبيرية (سيلف بورتريه) تصور حالتها لحظة الإصابة كما تراها ولكن بكثير من الألوان الزاهية وبعيداً جداً عن اللون الأحمر لأن ما حصل لم يكن تراجيدياً بالمعنى الدرامي بحسب تعبير الفتاة، إنما درس وجوديّ مكّنها من اختبار الأشياء اليومية العادية لأول مرة بعد الحياة الجديدة، طعم الماء، ملمس الأرض، قيمة اليد اليمنى بعد تجربة فاشلة لتدريب اليسرى، هي تفاصيل لا نعي أهميتها حتى نفقدها حقاً.
المشروع الآخر الذي تسخّر عشتار مقدراتها لتنفيذه هو فواصل قصيرة تحت عنوان (شو الهدف؟) مرتبطة بموضوع قذائف الهاون بالتحديد لتطرح عبر مجموعة من القوالب الحركية المصورة إشكالية الاستهداف العشوائي للأحياء المأهولة بالقذائف والصواريخ والتي من الممكن أن تودي بحياة أطفال أو نساء أو طلاب مدارس وغيرهم كما حصل في كثير من المرات، من دون أن يقترفوا أي ذنب، فهذه الحرب لم تكن يوماً خيارنا، فما هو هدف من يقدم على هذا الفعل؟
فصل القيامة ولملمة الجراح
تؤكد منال ظفّور والدة عشتار، ممثلة سورية لدى إحدى منظمات اليونسكو المعنية بحماية التراث السوري اللامادي إن أقسى ما يمكن أن تتعرض له الأم في حياتها هو أن ترى ولدها جريحاً أو متألماً وتقول: «لقد شعرت بمعنى المصيبة، لكنني لا أملك أي إحساس بالحقد تجاه من فعل ذلك، ربما عندما وقعت الحادثة كنت أكثر غضباً وتألماً لكن عودة ابنتي إلى الحياة والمشي جرّدني من رغبة الانتقام» وهذا ما وافق عليه الأب بدوره، سلمان الأحمد عضو مجلس إدارة اتحاد الغرف الزراعية الذي تمسك بخيار عشتار بالبقاء في البلد برغم العروض المغرية التي تلقتها للسفر خارجاً، والغفران لمن تسبب بأذيتها على أمل لملمة الجراح السورية والتوقف عن استباحة الدماء.
تشعر العائلة الحمصية اليوم بالامتنان لجيرانهم الدمشقيين الذين عرّضوا حياتهم للخطر وأنقذوا ابنتهم بالرغم من ارتفاع نسبة احتمال سقوط قذيفة أخرى في المكان، وبالشكر لأساتذة كليتها الذين وافقوا على تحكيم مشروع تخرجها في المستشفى، وبالعرفان للكادر الطبي الذي رافقها وأشرف على حالتها ومتابعتها حتى تمكنت من العودة إلى حياتها شبه الطبيعية بعد 41 عمل جراحي، لكنهم مجمعين على أنهم لا يملكون أي مشاعر تجاه الأشخاص الذين يستهدفون المدنيين العزّل بقذائف الهاون والصواريخ! هم فقط يسألون لماذا ومتى سينتهي كل ذلك؟

 

 

 

 

 

 

اخبار الاتحاد