ليس حدثاً عادياً أن تنشر روسيا قوات عسكرية من طيران وقواعد صواريخ بعيدة المدى على الأرض الإيرانية، وليس حدثاً عابراً أن تقلع الطائرات الروسية الاستراتيجية من مطار إيراني عابرة الأجواء العراقية لتقصف الإرهابيين وتجمّعاتهم وقواعدهم اللوجستية ومعسكرات تدريبهم على الأرض السورية، وليس أمراً بسيطاً أن يتهامس البعض بإمكانية فتح قاعدة أنجرليك الجوية التركية أمام الطيران الحربي الروسي خدمة للمهمة الروسية. وهي القاعدة ذاتها التي تتخذها أميركا مقراً ومدرجاً لطائراتها في المنطقة لتنفيذ مهامها خدمة للمشروع الغربي الأطلسي، فأين جذور ذلك وما هي دلالاته والى اين يقود؟
في 8 حزيران 2016 الماضي وعندما عقد اللقاء العسكري الثلاثي في طهران الذي جمع وزراء دفاع كلّ من إيران وروسيا وسورية تصوّر البعض أنّ اللقاء قد يكون تحت عنوان التنسيق وتوزيع الأدوار في مهمة محدّدة صيغت تعريفاتها، حسب المتلفظ بها، ففي العبارة الروسية هي مهمة محاربة الإرهاب ومنع انتصاره في سورية حتى لا يتمدّد إلى روسيا، وفي العبارة المقاومة والدفاع عن سورية ومنع سقوطها بيد معسكر العدوان بقيادة أميركية، ولكن أتت مجريات الأحداث بعد ذلك لتثبت في أرض الواقع وتؤكد وجود شيء آخر ولتثبت بأنّ المثلث العسكري «راس» روسيا إيران سورية RIS الذي أرسيت قواعده في طهران هو نواة تحالف استراتيجي ذو ميدان إقليمي منفتح على أن يكون ذا بعد دولي عام.
ومع الطلعات الجوية الروسية من مطار همدان الإيراني أكد على ذلك وجمعت الطلعة الواحدة أطراف المثلث الثلاثة طائرة روسية تنطلق من مطار إيراني لتدافع عن سورية بتدمير أهداف إرهابية فيها… وهنا «تململت» أميركا ثم «قلقت» ثم كادت تدين بعد أن تشكل أو قد يكون قد تشكل في الواقع لديها شعور سلبي مرعب.
ونحن لا نعتقد أنّ الإحساس الأميركي الرافض للواقع هذا عائد فقط إلى ان ّالحكومة السورية ستستفيد حتماً من دعم روسي عسكري ميداني إضافي في حربها على الإرهاب، ما يرفع من مستوى قدراتها على الصمود في حربها الدفاعية والنجاح في مواجهة العدوان عليها، النجاح الذي تعمل اميركا على منعه. وهي تعلن ذلك بكلّ صلف ووقاحة على حدّ ما قال روبرت مالي منسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض ومساعد الرئيس الأميركي في حديثه الأخير الذي أعلن فيه «أنّ أميركا تعمل ما في وسعها لكي لا ينجح النظام السوري في المواجهة الدائرة حالياً في سورية»، بل إنّ القلق الأميركي الذي قد يصل إلى حدّ الاحتقان والغضب الشديد مردّه إلى خشية أميركية بأن يتطوّر مثلث «راس» RIS إلى حلف عسكري دولي دائم يتعدّى المهمة في سورية ويكون بديلاً لحلف وارسو الذي فكّكته أميركا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي، خاصة أنّ في نواة هذا الحلف الجديد مَن يحمل في جعبته انتصارات تراكمية خلال العقدين الماضيين على يد محور المقاومة في مواجهة «إسرائيل» وأميركا كما وعلى يد روسيا في القرم.
اذن لقاء طهران العسكري الذي أنتج مثلث «راس» RIS الدفاعي ضدّ الإرهاب ومن أجل أمن المنطقة واستقلالها، والذي يخطو اليوم من خلال عمل القوات الروسية في سورية، انطلاقاً من الأرض الإيرانية خطوة استراتيجية جبارة، هو أمر سيشكل انعطافة كبرى في تاريخ العلاقات الدولية وموازين القوى في مرحلة إعادة صياغة النظام العالمي الجديد الذي لن يبقي باقية من حلم الأحادية القطبية. وبهذا نفهم القلق الأميركي الذي سرعان ما تطوّر للقول بأنّ «روسيا ربما تكون قد انتهكت القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن حول الاتفاق النووي مع إيران من خلال استخدام قواعدها الجوية لضرب أهداف في سورية»، على حدّ ما صرح به الناطق الرسمي باسم الخارجية الأميركية.
اميركا التي أتت إلى سورية بحلف دولي كوني وصل إلى 133 دولة من أجل الإطاحة بها، وبمحور المقاومة الذي كانت تنظر اليه كعدوها الوحيد على الكرة الأرضية الذي يعطل مناوراتها للسيطرة على المنطقة تجد نفسها اليوم وبعد ست سنوات تقريباً من بدء العدوان وارتكاب الفظاعات من قتل وهدم وتشريد، تجد نفسها أمام محور مقاومة متماسك لا ينثني ولا يتراجع بل يتقدم نحو مشروع تحالفي دولي فيه دولة نووية عظمى ذات عضوية دائمة في مجلس الأمن ولديها من الطاقات والعزيمة ما يمكن الحلف، إذا قام، من المنافسة الدولية المتكافئة.
وهكذا تجد أميركا نفسها أمام هذا الخطر وهذا الاحتمال في الوقت الذي تشعر فيه وتقرّ بأنها غير قادرة على الحسم في سورية سواء العسكري أو السياسي وإنّ جلّ ما تستطيعه أو تريده الآن كما صرّح مسؤولوها مؤخراً «إطالة أمد النزاع» أيّ إدخال المنطقة في حرب استنزاف لمنع الحكومة السورية من الانتصار.
اذن اميركا اليوم أمام مأزق وخسارة استراتيجية كبرى، فبعد أن تراجعت عن هدف السيطرة على كامل سورية وهو هدفها الأول من العدوان، وعملت على هدف أقلّ شأناً منه هو تقسيم سورية ليكون لها جزء منها يحقق أغراض العدوان بتقطيع أوصال محور المقاومة وفصل الشرق منه عن الغرب، تتراجع اليوم إلى هدف أكثر تواضعاً هو منع الحكومة السورية من تسجيل الانتصار والاكتفاء بحرب استنزاف تأخيرية، أميركا التي تراجعت أهدافها كما تقدم تجد نفسها أمام مفاجأة استراتيجية من العيار الثقيل تتمثل بتحالف «راس» RIS المنفتح على انضمام أطراف جديدة قد لا تكون الصين والعراق وحدهما على طريق الالتحاق به مع سؤال سيكون ملحاً حول موقع تركيا؟
إنّ محاولة أميركا إثارة الغبار على قيام التحالف «راس» RIS وإعلانها رفض استعمال الأرض الإيرانية من قبل القوات الروسية ولجوئها إلى قرار مجلس الأمن المتعلق بالاتفاق النووي لتقول بأنّ في الأمر انتهاكاً له هو أمر سخيف ومثير للسخرية والهزء، اذ ما هي العلاقة بين القرار هذا وممارسة إيران وروسيا وسورية لسيادتها وقرارها المستقلّ في التعاون العسكري دفاعياً، وحسناً فعل الوزير الروسي لافروف بالردّ على الاتهام الأميركي مستخفاً به نافياً الاتهام جملة وتفصيلاً.
إنّ حرب الاستنزاف التي اعتمدتها أميركا مؤخراً او أرادتها بعد فشلها في الحسم والانتصار في سورية، هي حرب لن تستمر وستقطع الطريق عليها اليوم، كما قطعت الطريق على حرب الاستنزاف السابقة التي قرّرتها اميركا في صيف العام الماضي 2015 عندما جاءت المساعدة الروسية في أيلول لتضيف إلى قدرات محور المقاومة ما مكّنه من إجهاض الاستنزاف وتسجيل الانتصارات والإنجازات التي غيّرت المشهد السوري، وبالتالي نقول اليوم لن تفلح أميركا في كلّ مناوراتها الإرهابية او السياسية من منع انتصار سورية، ثم أن ما هو أخطر من الانتصار هذا، هو ما تشكل في طهران وباتت مفاعيله في الميدان وخرج إلى العلن وأغضب أميركا وأرعبها أنه مثلث «راس» الإقليمي الدولي الذي لن يترك لأميركا مجالاً للتحكم بالشرق الأوسط… والعالم