ولادة نظام عالمي جديد

بسام هاشم : البعث السورية –

لا يمر يوم إلا وتتأكد الفرضية القائلة: إن ما جرى الاتفاق على تسميته طوال السنوات الخمس الماضية بـ “الأزمة السورية” لم يكن إلا مشروع حرب استعمارية إلحاقيّة جرى التحضير لها في دوائر الاستخبارات الغربية والأطلسية ودول “الاعتدال العربي”، كخطوة ضرورية ينبغي أن تعقب احتلال العراق، وشكّل اغتيال الحريري إشارة البدء للانطلاق العملي بها، قبل أن يتسارع هذا العمل على خلفية فشل مشروع تحطيم محور المقاومة بفشل العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، وإن الإعداد لهذه الحرب إنما سبق، بسنوات، اشتعال “الربيع العربي” الذي فاجأ أول ما فاجأ معسكر الاعتدال العربي، قبل أن تجري مصادرة هذا “الربيع” لصالح القوى الاستعمارية والرجعية ذاتها من خلال تلزيمه مباشرة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ومن ثمّ، في مرحلة تالية، للتنظيمات الإرهابية المتطرّفة العاملة في إطار التنظيم العالمي القاعدة، قبل أن تحتكر الوهابية التكفيرية العالمية هذه المهمة لنفسها بدعم أولي من النظامين السعودي والقطري.
ولطالما أدرك الوطنيون السوريون، منذ البدء، أن الحكاية تتعدّى مسألة حريات ومطالب وحقوق، وهي تعابير فضفاضة ومتحوّلة و”مرنة” وصلت، وتصل، إلى حدود رفع “الأحرار” و”أصحاب الحقوق” إياهم شعارات انفصالية وتفكيكية استهدفت وحدة وسيادة الكيان الوطني، ولم تتردد أبداً في رهنه لإرادة الأجنبي، وأن ما يفرض نفسه على السوريين بالضبط هو حرب وطنية شاملة بكل معنى الكلمة، تضع الدولة السورية الحديثة في مواجهة تحدي البقاء والاستمرار أو الاندثار والموت، مع ما يستدعيه ذلك من متغيّرات استراتيجية وجيوسياسية ستكون لها منعكساتها وتداعياتها الجذرية والخطيرة على النظام العربي والإقليمي والعالمي، وقبل كل شيء على مصير ومستقبل الشعب السوري نفسه.
ولم تكن هذه الرؤية خاصة بـ “النظام السوري” وحده، بل كانت قاسماً مشتركاً لكل من الإيرانيين والروس والصينيين والأمريكيين اللاتينيين، ولكل من اكتوى بموجة الثورات الملوّنة التي ميّزت حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وعليه، فقد أدركت طهران أن الأزمة في سورية ماهي إلا حرب عدوانية تستهدف “أقوى حلقات محور المقاومة” في الشرق الأوسط، ووعت موسكو أن محاولة التحالف الأطلسي الوهابي العثماني الجديد قلب النظام الوطني في سورية إنما تستهدف الحيلولة دون وصول روسيا إلى البحار الدافئة، ومن ثمّ خنقها لمئة عام قادمة بموجات متتالية من الإرهابيين المتدفقين من الجنوب، وحصرها في البر القاري الآسيوي، فيما رفضت بكين موقف الحياد، ذلك أنه على مستقبل المواجهة القائمة في سورية سوف يتوقّف شكل النظام العالمي الجديد.
كل هذه المعادلات والحسابات والرهانات ألقت بثقلها على امتداد السنوات الماضية في اجتماعات المنظمات الإقليمية والدولية، وفي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على الأخص، ولكنها اليوم، وبعد أكثر من خمسة أعوام، تتفجّر بالجملة، وبعنف، وعلى نحو شامل، على مشارف مدينة حلب وحدودها الجنوبية. غير أنها معادلات ورهانات انقلبت فيها عوامل ومقومات القوة والضعف، بحيث باتت تركيا فيها الحلقة الأشد هشاشة وتهتّكاً، وتحوّلت خلالها من منصة رئيسية لتنفيذ الهجوم الاستراتيجي على بلاد الشام إلى “الكوريدور المفتوح” على أخطر احتمالات التفكّك والانهيار والحروب الداخلية بين مدنيين وعسكريين، وبين أصوليين إسلاميين وعلمانيين متأوربين، وبين قوميين أتراك عنصريين متشددين وانفصاليين، وبين محافظين ليبراليين جُدد استولوا على كامل مقدرات الاقتصاد التركي وفقراء أرياف بات قدرهم الوحيد أن يكونوا الوقود المستمر للمطامح التوسعية لحزب “العدالة والتنمية”، الحاضنة الدافئة لـ “داعش التركية” الآخذة في التوسّع والنمو.
وكان واضحاً وجلياً أن الرجعيات النفطية العربية أقحمت نفسها، أو هي أُقحمت عنوة، في أتون مغامرة لا تملك القدرة على الاستمرار فيها إلى النهاية، ولا هي مُجهزة لاحتواء احتمالاتها وتداعياتها الكارثية، في ظل أنظمة حاكمة متخلّفة عاجزة عن استيعاب تعقيدات الواقع الاستراتيجي المعاصر، انطلاقاً من رؤية للعالم تستند إلى فهم شخصاني، وغياب مريع لأدوات العمل الدبلوماسي، ورصيد سياسي يقتصر على مجرد التعنّت والمكابرة، وقيادة مصالح بلدانها باعتبارها مصالح رعايا لا شعوب.
اليوم، وفيما يتقهقر تحالف العدوان ينهض التحالف الجديد.. تنطلق القاذفات الروسية من قاعدة همدان للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، وبعد نحو أربعين عاماً من إغلاق القواعد الأمريكية في إيران الشاهنشاهية، ويفتح العراق أجواءه لعبور الطيران الروسي لإنجاز مهامه القتالية في محاربة الإرهابيين في الأراضي السورية، ويجري تطوير وتجهيز قاعدة حميميم في اللاذقية في إطار الهدف الإستراتيجي السوري الروسي المشترك بعدم السماح بانتصار الإرهاب الدولي، وتتعمّق علاقات التعاون العسكري بين دمشق وبكين، في أفق الاستعداد للمعركة الفاصلة التي ستسدل الستار على الصراع العالمي المحتدم فوق الأرض السورية بين محورين: محور الدفاع عن مبادئ القانون الدولي وحق الشعوب في السيادة والقرار الوطني المستقل، ومحور العدوان والهيمنة والتحكّم بمقدرات الشعوب.
يتوجّب الإقرار بأن الشرق الأوسط على مشارف بناء منظومة استراتيجية جديدة تنهض على  أرضية توازن عالمي آخذ في الظهور انطلاقاً من الأرض السورية بفضل تضحيات الشعب السوري وجيشه الوطني.. وهي تضحيات ستعيد صياغة مستقبل المنطقة ولابد، ولكنها ستحمل في رحمها بشائر ولادة سورية الجديدة بالتأكيد.

 

 

 

 

اخبار الاتحاد