أكثرُه هَباء . نهلة سوسو

كانت ظريفة إلى درجة إخبارنا أنها قرّرت شراء عطر فرنسيّ لنفسها أسوةً بالنساء الأرستقراطيات اللواتي سمعت منهن مراراً أسماء العطور “الثمينة” يتفاخرن بها، وهي لا تتعدى الثلاثة! قالت إنها ستغامر بالمال الذي حصّلتْه من عمل شاق، لتشتري ما يرفع مقامها أمام نفسها! لكن كيف أكملت روايتها بعد حين من الزمن؟

-ذهبتُ إلى السوق الشهير باستيراد أغلى السلع ومررت على بائعي العطور أطلب الروائح التي حفظت أسماء “ماركاتها” وكان البائع الأنيق المتلطّف مثل نجوم السينما يهديني “رذّة” للتجريب من كل قارورة، حتى شعرت أنني كل النساء اللواتي فُتنتُ بعطرهن، وهن من قلن لي إن أصول استخدام العطر أن يُرَذَّ قليلاً على مواقع النبض فوق رسغ اليد، لذلك شعرتُ أنني اكتفيتُ ولا داعي لخسارة المبلغ الذي خبّأته بحرص داخل حقيبتي، وله أكثر من تصريف ينتظره من حاجيات الحياة القاسية!

كان ذلك أيام الثمانينيات التي تبدو اليوم بإيقاعاتها ماضياً سحيقاً عادت منه فجأة بعد غيابٍ من دون أن تترك لي لحظة أتملى غروبَ الصِّبا وفعلَ الزمن، ومباشرة راحت تتفحّص رفوف المكتبة: -أريد فقط أن أتذكر كتبي المفقودة! كنا نشتري الكتب معاً وتقولين لي هذا الكتاب يكبرنا بقرنٍ من الزمان، وهذا طُبع قبل ولادتنا بعشرين عاماً، لكنهما أكثر شباباً ونضارة منا! وهذه الرواية أصدرتْها دارُ النشر بغلافين أنت أخذت الزرقاء وأنا أخذت الخضراء! كيف قاوم ديوان المتنبي عندك كل هذه السنين ولم “تفرط” ملازمه؟ بالتأكيد أنت لم تقرئيه كما يجب! كان عندي لا يستقرّ على رفّ وكلما احتجتُ إلى حكمة انتزعته من بين الدواوين وأخذتُه إلى غرفة الجلوس أو غرفة النوم أو أريكة القيلولة! في الواقع لم تكوني يوماً من قراء الشعر الجيِّدين! هل تتذكرين “بيتَ” “زهير بن أبي سلمى”: “رأيتُ المنايا خبْطَ عشواءَ من تُصبْ تُمِتْهُ؟” كانت هذه الحرب كالمنايا بخبطها العشوائي لأنها أخذت مكتبتي بالكامل ولم ولن أفهم حاجتَهم لإحراقها! ماذا كانوا يريدون؟ هل هم نسلُ من أغرَقوا مكتبات بغداد بعد أن نهبوا كنوزها؟ هل هم أحفاد أكلة لحوم البشر؟ هل هم من رعايا محاكم التفتيش؟ قلت مواسيةً: -صرنا في زمن مكتبة الشاشة السحرية الصغيرة بحجم راحة اليد! لا حاجة لاستئثار رفوف الخشب لمكان من المنزل ولا للتنظيف المرهق ولا لدفع النقود ولا للجفاء مع المستعير الذي لا يردُّ كتاباً! قالت إن حكاية “مكتبتك” العصرية تشبه تماماً حكاية ذلك العطر الذي نلتُه من الدكاكين من دون أن أقتني قارورة! عدت يومها إلى البيت ببقايا عدة روائح شاحبة! كانت هباءً! وأنت تعلمين ما الهباء! ترابٌ تطيُّره الريحُ ويلصق بالأشياء أو ينبثُّ في الهواء فلا يبدو إلّا في ضوء الشمس! المكتبة كائنٌ حيٌّ فيه روح، ولا يجدي أن تستعيضي عنها بتمثال شمع مهما بلغت دقّة صناعته، وكلُّ ما في جهازك السحريّ الصغير هو هباءٌ لا يخصّني لأنه لا يعطيني أكثر من زرٍّ لا ملامح له وهو مشاعٌ لأيدٍ لا يمكن أن تشبه يدي، التي زالت

اخبار الاتحاد