علي قاسم:
لم تكن العربدة الإسرائيلية الجديدة مجرد إضافات نوعية أو تحولات مفصلية في المشهد، بقدر ما جاءت لتُرسِّخ جملة من الحقائق التي يحاول الكثير من أبواق الفجور السياسي والإعلامي أن يغيّبها،
بل في بعضها يستهدف ليّ عنق الحقيقة كاملة، ليتحول المشهد برمته إلى مجرد تفاصيل عائمة على سطح المقاربات ومنفصلة عن سياقها العام، وفي الحد الأدنى فرض انفصام قسري بين المعطيات والتفسيرات.
المسألة بتجلياتها المختلفة تطرح عناوين قادمة، وربما صادمة لمرحلة لم تعد تنفع معها عملية الترقيع هنا أو هناك، ولا المجادلة في المسلمات والبديهيات، وأساسها الجوهري أن المزاج العام الذي استماتت منظومات سياسية وإعلامية مشبوهة لتغييب وجود العدو وتموضعه السياسي والجغرافي، لم يتُه عنه، وليس بوارد ذلك لا في المدى القريب ولا البعيد، حيث إسرائيل كانت وستبقى عدواً أساسياً وحالة استلابية قائمة على الأرض، كما هي موجودة في تلوين مجريات الأحداث والتطورات وأجندات العدوان.
وبالقدر ذاته كانت منذ اللحظة الأولى شريكاً متكافلاً ومتضامناً، بل ومساهماً جنباً إلى جنب مع التنظيمات الإرهابية، وقد حظيت بمرتبة متقدمة في سلم أولوياتها المختلفة، ولم تخرج في أي لحظة من اللحظات من حسابات المعادلة ولا من قواعد الاشتباك، سواء الأساسية أم الاحتياطية، وهي في مختلف التحليلات والتسريبات كانت أحد أهم عوامل عناوين الحرب التي شنت وتشن على سورية، سواء كانت عبر وكلاء الإرهاب أم أصلائه من الداعمين والممولين والمخططين، والقرائن ليست فقط تلك المتعلقة بالممارسات، بل أيضاً في سياق التبرير الأميركي لدعم التنظيمات الإرهابية، وفي جزء أساسي من النقاش الداخلي الأميركي، ولعل جلسات الاستماع التي أجراها الكونغرس على مدى السنوات الست الماضية شاهد على ذلك، ناهيك عن الكمّ الهائل من الوثائق أو محاضر الجلسات المسربة للقاءات الإسرائيلية الثنائية مع الأميركيين وغيرهم.
الأدهى كانت حالة التماهي القائمة بين التنظيمات الإرهابية وإسرائيل التي بادرت مشيخات الخليج إلى التعاطي معها، حيث التجارب العديدة كانت تشي بحجم الاتفاق وبنوده ومسلماته، مضافاً إليه حالة التشكيك في الموقف من إسرائيل التي كانت تتراكم إلى جانب الأدلة القائمة على حجم التعاون بين تلك التنظيمات الإرهابية وإسرائيل، وصولاً في نهاية المطاف إلى بنك الأهداف الذي وضعته هذه التنظيمات الإرهابية منذ بدء حربها على سورية، وإن بقيت هدفاً مباشراً ومتواصلاً ومستمراً رغم المتغيرات التي طالت بنك الأهداف الإرهابي، والتطورات التي دفعت إلى تعديلات بنيوية تكتيكية واستراتيجية فيه.
على المقلب الآخر كان التدخل الإسرائيلي في توقيته يصرّ على الرسالة ذاتها، وإن اختلف الهدف أو تباينت الطريقة، وهو يذكر بوجوده كحالة عدوانية تمارس العربدة من جهة، وتؤكد أنه حليف التنظيمات الإرهابية من جهة ثانية، بل يمكن الاعتماد عليه بعد أن أدارت الكثير من الدول الداعمة ظهرها وتلهث للحاق بركب التبرؤ منها، فيما إسرائيل حليف في العدوان موثوق قولاً وفعلاً، خصوصاً في ظل تنامي الدور ومحاولة سد الفراغ القائم بعد أن مالت السياسة الأميركية نحو الانسحاب والتركية باتجاه التملص، فيما المشيخات لديها ما يكفي من تأزم، فكان العدوان رسالة طمأنة في توقيت أحوج ما تكون إليه التنظيمات الإرهابية..!!
أما السرد المطول والإسهاب المشبوه في التفسير من خارج النص، فلم يعد مجرداً من أغراضه ولا من أهدافه، في وقت باتت المعطيات تجزم بأن الهزيمة التي منيت بها التنظيمات الإرهابية شكلت ضربة موجعة لافتراضات إسرائيلية، وقلباً لمعادلة بدأت الأجهزة الإسرائيلية المختلفة تبني تقديراتها وفقاً لمجرياتها، والأدهى أنها باتت من ضمن حسابات ومعادلات تنهار أمام أنظار الإسرائيلي، فيما كان تناوله في سياق التشفي لبعض الحاقدين والموتورين، لا يجدي في وقت لن يطول فيه المتغير الدراماتيكي القادم في تحقيق الصدمة المحسومة في الاتجاهين.
فالمؤكد أن العدوان الإسرائيلي الأخير شكّل تجاوزاً لكل ما كان معمولاً به، وأخرج قواعد الاشتباك من حيز وجودها، وفرض إحداثيات جديدة لن يطول المقام بها حتى تخط شروطها ومحدداتها، وتملي في نهاية المطاف قواعد اشتباك بارتدادات تتجاوز الحيز الجغرافي لمشاهد الاشتباك القائمة، وترسم منحنيات إضافية بعوامل ارتكاز معدلة وقائمة على حسم كلي لن يتسع المجال بعدها لكثرة التأويلات، بل سيضع نقاطاً مبعثرة على حروف تائهة شكلت فيما مضى مرتعاً خصباً لنمو تقولات طفيلية ومصطلحات متعرجة على تموجات صادمة.
الردّ ليس فعلاً محدداً في حيز جغرافي أو زماني، بل سيمتد في سياقه الأفقي والعمودي، ويحاكي كل الفضاء الذي تم تسخيره من أجل الحرب على سورية بشخوصه وأطرافه ودوله ومحاوره، وإن كان مباشراً على أداة العدوان ذاتها، وعلى فعل العدوان نفسه، فالاختبار لم يعد لنفاد صبر، ولا للعب على توقيت الاختيار، وإنما في إعادة رسم قواعد الاشتباك لتكون قادرة على التعبير عن احتياجات اللحظة الفارقة وما يليها، ولتكون في الوقت ذاته حداً فاصلاً بين حقبتين وعلى مستوى الإنجاز الميداني المتحقق في دحر الإرهاب ولجم داعميه ومحتضنيه والمراهنين عليه.