صيب عنجريني : الاخبار
تتواصل المعارك العنيفة في دير الزور، وسط استماتة تنظيم «داعش» للسيطرة على المطار وإخراج جزء شديد الأهمية من المدينة عن سيطرة الجيش السوري، في مقابل سعي الجيش إلى تثبيت نقاط التماس كمرحلة أولى. وتحظى معركة دير الزور بصفة «المصيرية» بامتياز، سواء في ما يتعلق بمفاعيلها العسكرية، أو ما يرتبط بالمشهد العام للصراع
في توقيت بالغ التّعقيد، تأتي محاولات تنظيم «داعش» المستميتة لتثبيت واقع جغرافيّ جديد في دير الزور، واقع يتجاوز المدينة بحد ذاتها إلى شرق سوريا فشمالها. ودفعت دير الزور خلال الحرب أثماناً باهظةً، ضريبةً لموقعها الجغرافي، سواء في ما يتعلّق بالشريط الحدودي الطويل الذي يربط ريفها بالعراق، أو ما يتّصل بخريطة السيطرة التي أفرزتها الحرب ووضعتها على تماسٍ مع «عاصمة الخلافة» في الرّقة ومع مساحات مفتوحة من البادية السوريّة الممتدّة حتى حمص غرباً وإلى الحدود الأردنيّة جنوباً، كما مع معاقل التنظيمات الكردية في الحسكةً.
الأهميّة الاستثنائيّة للمحافظة دفعت الجيش السوري إلى التمسّك بمناطق سيطرة فيها على امتداد السنوات الماضية، رغم صعوبة المهمّة، وتعرضت هذه المناطق مرّة إثر مرّة لقضم من قبل تنظيم «داعش»، وصولاً إلى المعارك الرّاهنة التي باتت تهدّد ما بقي منها، ولا سيّما المطار ومقر اللواء 137.
وثمّة نقاط كثيرة تستدعي الإشارة إليها في أي مقاربة للمعركة المصيريّة الدّائرة منذ أيّام، يأتي على رأسها التوقيت على مسافة أيّام من انعقاد محادثات آستانة التي تُشكّل (بغضّ النظر عن نتائجها) علامة فارقةً لجهة تقارب اللاعبين الروسي والتركي غير المسبوق، كما على مسافة قصيرة من تسلّم الإدارة الأميركيّة الجديدة مهماتها. وتتشارك معطيات كثيرة في ترجيح كفّة شهري شباط وآذار المقبلين ليشكّلا مفترقاً زمانيّاً مهمّاً في مشهد الحرب السوريّة في خضم تداخل مصالح وأجندات اللاعبين الدوليين والإقليميين، حتى ضمن المعسكر الواحد.
ضمن هذا الإطار، تجهد بعض الأطراف في الدفع إلى تشكيل حاملٍ ميدانيّ يضع الجغرافيا السورية بدورها أمام مفترق حاسم. وكعادته، يحضر التنظيم المتطرّف كما حضر في معظم المفاصل الميدانيّة المهمّة في المشهد السوري. ومن المعروف عن «داعش» براعته في استثمار التناقضات التي يزخر بها الملف السوري، وإجادة تسخيرها لخدمة خططه ومصالحه. وتبدو السيطرة على دير الزور أهميّة وجودية للتنظيم في مرحلة يوشك فيها على خسارة تموضعات بالغة الأهميّة في الجوار العراقي، ويستعدّ لمواجهة هجمات جديدة على معقله السوري الأبرز (الرقّة)، يبدو مرجّحاً أنّ العدّ العكسي لها سيبدأ في عهد الإدارة الأميركيّة الجديدة.
ويبدو لافتاً في هذا السياق أن هجوم التنظيم في دير الزور قد استُبق بانخفاض زخم معارك «غضب الفرات» التي يفترض أن تشنّها «قوّات سوريا الديموقراطيّة» تحت إشراف «التحالف الدولي» في الريف الشمالي للرقّة، الأمر الذي ينطبق أيضاً على عمليّات «درع الفرات» التركيّة. وينبغي الأخذ في الاعتبار أنّ نجاح التنظيم في الوصول إلى مبتغاه والسيطرة على كامل دير الزور قد يؤثّر تالياً بمسارات المعارك في مناطق أخرى، مثل تدمر والباب، وحتى الحسكة التي ستغدو في حال خسارة دير الزور آخر ملمح في حضور الدولة السوريّة في الشّرق.
وتأسيساً على كل ما سبق، يبدو جليّاً أنّ معركة دير الزور الحاليّة ليست معركة أيّام عابرة، بقدر ما هي حلقة في سلسلة يُخطّط لاستمرارها على المدى المنظور. وخلافاً لما تذهب إليه بعض القراءات، يبدو من المستبعد أن تفضي المعارك الراهنة إلى خسارة الجيش السوري كل مناطق سيطرته، كما يُستبعد مقابل ذلك أن تنتهي بعودة خريطة السيطرة إلى ما كانت عليه. وفيما يواصل الجيش السوري سعيه إلى امتصاص الزخم الكبير لهجوم التنظيم المتطرف، و«تثبيت الخسائر» عند حدود معيّنة كمرحلة أولى لاحتواء المخطط، يبرز حرص التنظيم على تنويع وسائل الهجوم ومحاوره والعمل على قضم أكبر مساحة ممكنة قبل الالتفات إلى تثبيت السيطرة والاستعداد لجولة تالية.
وتشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ خطط التنظيم المتطرف ستسعى خلال الأيّام المقبلة إلى السيطرة في الدرجة الأولى على حيّ هرابش وضرب طوقٍ محكم حول مطار دير الزور، والعمل بالتوازي على الوصول إلى منطقة البانوراما على المحور المقابل (محور اللواء 137). وضمن هذا الإطار، كثّف «داعش» أمس هجماته على طريق بورسعيد، واستهداف نقاط مهمّة مثل الجمارك ومعامل البلوك، نظراً إلى الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا الطريق .
في المقابل، يسعى الجيش السوري إلى تحويل المناطق التي تقدّم إليها التنظيم أخيراً إلى نقاط استنزاف مفتوحة مع العمل على تثبيت خطوط التماس وعدم خسارة المزيد من النقاط، تمهيداً لمرحلة لاحقة يفترض أن تشهد العمل على استعادة ما خُسِر. ويتطلّب نجاح مرحلة «تثبيت الخسارة» تكثيفاً إضافيّاً للطلعات الجويّة، سواء على محاور القتال القريبة، أو خطوط «داعش» الخلفيّة التي لم تتوقّف طوال الهجوم عن الزج بموجات متلاحقة من المهاجمين.
ويقول مصدر عسكري قيادي لـ«الأخبار» إنّ «الأمور على جبهات دير الزور في نطاق السيطرة، ومعارك مثل هذه لا تُحسم في ساعات كما يظنّ البعض». ويضيف: «كسر زخم الهجوم الأول وعدم الانكفاء الكليّ لعبا دوراً كبيراً في توازن القوات على مختلف المحاور وحِفظ الروح القتاليّة، في مقابل أثرٍ عكسيّ على الإرهابيّين الذين يخسرون في كل ساعة أعداداً أكبر من الساعة التي سبقتها». المصدر أكّد أنّ «أبطال الجيش في دير الزور الذين خبروا إرهابيي داعش طوال السنوات الماضية يعرفون تماماً كيف يديرون المعركة ويخوضونها، والعبرة في الخواتيم».