بقلم: العميد د. أمين محمد حطيط*:
تنعقد في الأستنة اليوم 23\1\2017 أول مباحثات بين الحكومة السورية الشرعية وبعض من فصائل المسلحين المحتشدين تحت عنوان المعارضة السورية المسلحة في مسعى مضمونه المعلن البحث عن حل سياسي للازمة التي فرضت على سورية
بعدوان كوني شن عليها وانخرط فيه بعض ممن يحملون الجنسية السورية بعد ان وعدوا بمغريات من سلطة ومال وما اليه من المغريات الأخرى.
نقول أول مباحثات سورية – سورية رغم انه سبقت الأستنة جولات عدة من المفاوضات او النقاشات جرت في جنيف وتحت رعاية أممية شكلت اميركا ومعسكر العدوان على سورية الجهة المتحكمة بها دعوة ومسارا، فما هو الجديد في مباحثات الأستنة، او ما هو الجديد في المشهد الدولي حتى يجعلنا نبدي اهتماما بهذه المباحثات يختلف عما كان قبلها، وبالتالي ما هو المتوقع منها حتى يشكل خروجا عن فشل ما سبقها؟
من المعلوم انه منذ العام الثاني للعدوان على سورية جرت محاولات تحت عنوان البحث عن حل سياسي للازمة في سورية وكان اعلان جنيف رقم 1 الصادر في 30\6\2012 اول ثمرة للتحرك الدولي ذاك، حيث صدر الإعلان وبغياب أصحاب الشأن المباشر، وكاد في مظهره يشكل ممارسة للوصاية على سورية وكأنها فقدت سلطتها الوطنية وسيادتها وقرارها المستقل، وباتت بحاجة لمن يمارس تلك الوصاية عليها دوليا، ورغم كل ما قيل حول اعلان جنيف ورغم كل التجاذبات حوله، فان في الإعلان ما يجعل التطبيق الحرفي والمؤكد عليه اميركيا ان هناك قراراً دولياً ترعاه اميركا بقوتها العسكرية والسياسية من اجل تغيير الحكومة السورية وتنصيب بديل عنها يوافق مصالح من ظن نفسه انه منتصرا في العدوان. وبالتالي كانت جنيف بالفهم الأميركي معبرا لصرف انتصار ميداني مزعوم وتكريسه في السياسة. لكن سورية رفضت ان تستسلم وأصرت على الدفاع مدعومة بمحور المقاومة الذي اثبت معها القدرة على الثبات مهما كان حجم الضغط والتهديد.
و بعد جنيف 1 كانت محاولات أخرى بما فيها قرارات من مجلس الامن تقاطرت حتى كان القرار 2254 الذي ذكر بإعلان جنيف بعد ان ادخل عليه ما يلطف المضمون ويخفف الأثر السلبي دون أن يصل الى مستوى ما تريده سورية من الحل السياسي من اهداف تتضمن بشكل قاطع المحافظة على وحدة الأرض والشعب والسيادة والقرار المستقل والموقع الاستراتيجي الملائم لجغرافيتها السياسية، ومع القرار 2254 كانت محاولة مفاوضات أخرى حاولت فيها اميركا ان تملي على سورية ارادتها ففشلت بسبب الصلابة السورية والقدرة الدبلوماسية الفذة التي اظهرها الوفد السوري في جنيف حيث تصرف بشكل اسقط بيد الخصم وجعله يفهم ان سورية ليست بوارد التساهل او التنازل عن حق وطني مهما كان حجمه وأهميته . وعلمت اميركا ان سورية كما في الميدان هي في السياسة غير قابلة للخضوع فعادت الى الميدان مجددا ومنت النفس بصنع مشهد يفرض على سورية الاستسلام.
و مرة أخرى واجهت سورية مع حلفائها الذين انضمت اليهم روسيا وأثبتت انها قادرة على الدفاع عن نفسها والثبات على مواقفها مهما كانت التضحيات ومضت سورية في الميدان قدما حتى كان الانتصار الاستراتيجي الكبير في حلب والذي عد بحق بانه عمل مفصلي قلب المشهد رأسا على عقب ومنح الفرصة لروسيا لأن تأخذ موقع اميركا في رعاية الحركة الدولية الباحثة عن حل سياسي للازمة السورية، كما انه فرض على أي متحرك على هذا المسار ان يأخذ بالاعتبار ان معسكر الدفاع عن سورية هو المنتصر الذي يستحق ان يهيمن على المسار وان يكون صاحب رأي وقول في وجهته وتفاصيله، وبهذا المنطق كانت الدعوة الى مباحثات الأستنة من قبل روسيا ومعها ايران وتركيا، وكان الانتقال العلني للملف الدولي السوري من يد اميركا الراعي والمهيمن والمسيطر الى يد منظومة تتقدمها روسيا العضو في معسكر الدفاع عن سورية المنتصر في الميدان والممتلك زمام المبادرة فيه الى حد بعيد . وبهذا المتغير نفهم التجاذب حول مسألة دعوة اميركا الى الأستنة، اذ بعد ان كانت اميركا هي التي تحدد من يدعى الى جنيف وتضع الفيتو على حضور إيران انقلبت المواقف وباتت إيران جزءاً من منظومة من يدعو ومن يضع الفيتو. وهنا يأتي سؤال جديد مضمونه وهل يمكن لحرب كونية تقودها اميركا ضد سورية ومحور والمقاومة ان تنتهي ويتفق على نهايتها في غياب اميركا عن طاولات المفاوضات؟
من البديهي ان نقول ان الحل السياسي للخروج من أي صراع يجب ان يشمل كل مكونات الصراع في الميدان وبالتالي يكون بديهيا أيضا ان تدعى اميركا الى الأستنة. ولكن لماذا الرفض الإيراني اذاً.
برأينا ان ايران تدرك في العمق ان الحل السياسي لا يمكن ان ينفذ او يتم الوصول اليه في غياب اميركا ولكنها تعرف أيضا ان اميركا اليوم ليست في وضع يمكنها من تسهيل الوصول الى حل او تهيئة البيئة الملائمة للبحث عنه وانطلاقا من نظرتها لوظيفة الأستانا والمباحثات فيها فإنها تبدي الاعتراض على الحضور الأميركي من اجل منع التخريب ولإرسال رسائل محددة لأكثر من طرف تؤكد على حقائق أولها ان معسكر الدفاع عن سورية هو من يتحكم بالمشهد والثاني أن اميركا لا وظيفة لها الان في مباحثات محددة الوظيفة حصريا بأمرين تثبيت وقف العمليات القتالية وتهيئة البيئة للانطلاق الدولي العام لإيجاد الحل السياسي في جنيف بعد تصحيح مفاهيم البحث عنه ومقومات هذا الحل . وبالتالي نرى ان الاعتراض الإيراني هو اعتراض على توقيت دخول اميركا وعلى حجم اميركا في المباحثات لاحقا. اما امر وجود اميركا في منظومة دولية ترعى الحل السياسي وتضمن نفاذه فامر كما اعتقد يعرفه ويسلم به الجميع ولكن شتان ما بين من يكون في المحكمة في موقع قاضي الحكم او من يدعى الى الجلسة ليستمع الى الحكم حتى يصبح نافذا بحقه.
فأميركا ان حضرت الأستنة فإنها تحضر في غير الدور والوظيفة التي كانت تمارسها في جنيف ، والأستانة ستقوم أولا وبعد تثبيت وقف العمليات القتالية وما يستتبعه من التزام تركي بشكل خاص بوقف مد المسلحين بالسلاح والانصراف الى محاربة جبهة النصرة وداعش ، فإن الأستنة ستقوم بتصحيح المفاهيم حول العملية السياسية لتأخذ بما تتمسك به سورية وحلفاؤها من مبادئ واهداف هذا الحل وقد بدأت تركيا بذلك على لسان نائب رئيس حكومتها عندما اعلن ان أحدا لا يمكن ان يتصور أي حل سياسي في سورية بدون الرئيس الأسد ، وصحيح انهم تراجعوا عن التصريح ولكن التراجع ليس له أهمية ووظيفته تفاوضية فقط ليس اكثر .
وعليه نرى أن الأستنة التي لا ننتظر منها ان تخرج حلا سياسيا للازمة السورية اليوم فالأمر يلزمه عمل أكثر، ان الأستانة ستشكل محطة الانطلاق نحو الحل السياسي بعد هزيمة العدوان على سورية، وبعد المتغير السياسي الهام الذي تشهده اميركا باستلام ترامب للسلطة فيها. ترامب الذي ان صدق في وعوده فسينقلب على سياسة سلفه وينتقل من محاربة الحكومة السورية بقيادة الرئيس الأسد الى محاربة الإرهاب الذي انتجه واستثمره أوباما. ثم ان ترامب وفقا لما جاء في خطاب التنصيب وعد الاميركيين بما لو التزم به ونفذه فعلا لكان من شأنه ان ينكفئ الى الداخل الأميركي ولا ينفق على حروب وتدخلات بعيدا عن حدود اميركا في حين ان الشعب الأميركي أولى بنفقات تلك الحروب.
فترامب إذا صدق فلن يتابع مسيرة العدوان على سورية كما فعل أوباما فهو الذي يقول ان «اميركا أولا» يعلم ان سورية لا تهدد اميركا بل ان الذي يهدد اميركا هو الإرهاب الذي تحاربه سورية، ولان لترامب من المشكلات في الداخل وفي اوروبا ومع الإرهاب أكثر مما يتصور فإننا نعتقد ان مصلحته طي ملف العدوان على سورية والانصراف الى معالجة قضايا تهم الشعب الأميركي.
وبالتالي ان الجديد في مباحثات أستنة انها تنعقد في ظل انتصار مبين لمعسكر الدفاع عن سورية وفي ظل تغيير واضح للقيادة الأميركية التي قادت العدوان على سورية وفي ظل تفكك هذا المعسكر وتشتت اطرافه لذلك يكون للمتابع ان يترقب بعض الإيجابيات من الأستانة إذا تعقلنت تركيا والفصائل السورية التي ذهبت للمباحثات تحت عنوان معارضة سورية، فإن حصل ذلك فسيكون هدوء ما يرسي أسسه وكيفية صيانته العسكريون الموجودون بكثافة في عداد الوفد الى الأستنة اليوم وتفتح الطريق الامن الى جنيف في ظل بيئة جديدة ومفاهيم قويمة تستند الى ما تمسكت به سورية منذ اللحظة الأولى لدفاعها عن نفسها في وجه العدوان الكوني عليها.