يعيد التقرير الأخير لـ “منظمة العفو الدولية” حول عمليات إعدام في سجن صيدنايا قرب دمشق الرواية القديمة الجديدة عن منظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وخضوعها للنفوذ الغربي وتوظيفها لخدمة أجندات سياسية محددة. ورغم أن هذه المسألة حكمت على الكثير من هذه المنظمات بالانتقائية والتسييس والانحياز وفقدان المصداقية، بحيث تحوّلت خلال العقود الأخيرة إلى شبه مؤسسات للعلاقات العامة تنتهج التشهير المنظّم، وتتقصد تشويه السمعة، وتمارس “الشيطنة” المنهجية -وهذا ما هو واقع فعلاً- إلا إن المثير في الأمر أن هناك من تمكّن، مع تقدّم الوقت، من تحويل هذه المنظمات إلى مكوّن لا يستغنى عنه في شبكة العلاقات الدولية، بل وإلى مؤسسات مجتمع دولي مواز خارج عن المعايير التقليدية، ويعمل بوحي من روزنامات سياسية خفيّة، وبتحريض مباشر، وغير مباشر، من إمبراطوريات مالية اتسعت مصالحها إلى حد العمل على قلب أنظمة سياسية معينة، أو توجيه العمليات الانتخابية في بلدان محددة، بما فيها دول كبرى، أو التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي إزاء قضايا وأزمات تنطوي على احتمالات تغيير توجهات الصراع وتبديل موازين القوى الإستراتيجية الإقليمية والدولية.
ولأن تكتيك الكثير من هذه المنظمات بات يتمثّل في ملاقاة الانعطافات السياسية الحاسمة، والتقاطع مع الأحداث والتطوّرات المتوقّعة في التوقيت المناسب، بما يخلق إمكانية التأثير على مسارها في اللحظات المفصلية، فقد تحوّلت الغالبية من تقاريرها إلى ما يشبه مرافعات اتهامية قوية في الخطابة السياسية التحريضية المصاغة بلغة مجازية فخمة، وشاعرية محلقة وموحية، بهدف كي الوعي وإحداث الصدمة المطلوبة (مسلخ بشري- نهاية الحياة- نهاية الإنسانية- المبنى الأحمر- المبنى الأبيض- معركة البقاء- حرب حقيقية- كيف عساي أوضح الأمر!)، وجلها استعارات ومصطلحات مستأجرة حرفياً، وبعناية مدروسة، من قاموس “الهولوكوست”، كما أشرف على ابتكاره منتصرو الحرب العالمية الثانية. ولا همّ بعد ذلك بشأن المضامين، وليس مهماً أنها تعتمد أساساً على شهادات من طرف واحد، أو أنها تشوّه الحقائق، أو تختلق وقائع بديلة، أو تتعمّد الكذب، بل وتحوّل عتاة الإرهابيين إلى ضحايا لضحاياهم، ذلك أن البروباغاندا الغربية الداعمة للإرهاب في سورية إنما التزمت، على طول الخط، ومنذ اندلاع الأزمة، قلب المعطيات رأساً على عقب، وتحدّثت، بدعم من وسائل الإعلام المهيمنة، كناطق معتمد باسم “القاعدة”.
تجهد منظمة “العفو” في شد إزر الجيش الإرهابي الذي يتوزّع اليوم بين “مقاتل” و”مفاوض”. لقد هالها أن “النواة العسكرية الصلبة” لـ “التمرد السوري” آخذة بالانكماش والتآكل تحت ضغط المجريات الميدانية، وأن الإقلاع الأولي بالعملية السياسية ينطوي، بحد ذاته، على إمكانيات المخاطرة الفعلية بمستقبل ستة أعوام من الدعم الغربي والخليجي المفتوح، والرهان المستميت على النقلة السياسية والاستراتيجية المطلوبة في سورية، وفي الشرق الأوسط، وفي عالم التوازنات الدولية، فاستنفرت احتياطييها من كَتَبة، وكَذَبة، “الإخوان المسلمين”، الذين أوصلتهم إدارة أوباما إلى العالمية، والذين لا يعرف أحد كيف أمكن أن يخرجوا من “معتقلهم” في ظروف معاملة أمنية مفترضة بكل هذه القسوة والوحشية.
تجاهلت “امنستي انترناشيونال” الموت الكيماوي في خان العسل في حلب، وعشرات الأطفال الأبرياء الذين نقلوا من الساحل السوري إلى الغوطة الشرقية لكي يقتلوا جماعياً بالأسلحة السامة السعودية، التي كان أرسل بها “بندر” عن طريق الاستخبارات التركية، والمئات من الضحايا المدنيين الذين جرى استحضارهم أمواتاً إلى الحولة لمجرد تلفيق تهمة “مصوّرة” عبر الأجهزة المحمولة للقتلة أنفسهم، وعشرات المجازر التي لم يرف للمنظمة حيالها أي جفن، ولكن الأشد فجوراً أنها تتبنى روايات المجرمين في سياق تحقيقات تزعم الموضوعية فيما هي مجرد دعاوى سياسية كاذبة ومضللة.
كل الضحايا يقتلون لمرة واحدة إلا في الأزمة السورية، حيث يقضي الأبرياء مرة ثانية، وثالثة، على يد سلسلة من مجرمين قد لا تنتهي عند المؤسسات والمنظمات الدولية. وليس الأسف هو المهم هنا، بقدر ما أن المهم هو أن يدرك السوريون حجم واتساع وشراسة الهجمة التي تستهدفهم.
بسام هاشم
Next Post