ناصر قنديل: البناء اللبنانية
في لحظات سيئة تعيشها إدارة الرئيس التركي رجب أردوغان مع واشنطن في ضوء مجريات أحداث شمال سورية وتمسّك المسؤولين الأميركيين بأولوية علاقتهم بالأكراد وعجز أردوغان عن استيعاب ذلك، تكشفت مرة أخرى معضلة الشعور بالعظمة كحاجز دون التفكير الواقعي في الذهنية التركية الحاكمة، فالمسألة عند الأميركيين ليست بحجم القدرة العسكرية للأطراف، ولا بالموقف من الدولة التركية والحرص على التحالف معها.
إنها ببساطة حاجة واشنطن لجهة غير حكومية سورية تمنحها شرعية نشر قوات وخبراء وإقامة مطارات في سورية، تحت عنوان خصوصية لها مقدار من الشرعية الواقعية والشرعية العرقية أو القومية، وجهة تأتمر بالأوامر الأميركية ولا تدين بالولاء لدولة غير أميركا. وفي هذين الشأنين تركيا كأميركا تفعل مثلها مع الجماعات المسلحة التابعة لها، وتريد من واشنطن أن تمرّ عبرها وأن تستمد شرعيتها من احتلال تركي يشبه الاحتلال الأميركي، ولو تغطّى الاحتلال التركي بعنوان مواجهة خطر على أمن تركيا مرة بذريعة الأكراد أو يدعم فصائل مسلّحة موالية لتركيا. تبقى ذريعة الأميركيين أقوى في الحرب على داعش، وغطاؤهم أهم بالعلاقة مع الأكراد.
تقع الأزمة التركية مع هولندا وألمانيا لأسباب مشابهة، فيخوض الرئيس التركي وحكومته مواجهة تحت ما يعتبره حقاً ديمقراطياً، بالتواصل مع الناخبين قبل الاستفتاء، ناسياً أنه يتحدّث عن مهاجرين في بلد آخر، وأن ما يعرضه ليس توقيع اتفاق تتيح بموجبه الدولة المضيفة للجاليات المقيمة تنظيم مهرجانات انتخابية واستقبال المتحدثين من الفريقين للتعرف على المواقف وممارسة الاختيار، بل حق حصري لممثلي الحكم بتعبئة مهاجريهم للتصويت لحساب خياراته. ويستغرب أن تجد الحكومات المقبلة على انتخابات في ذلك، ولخصوصية الموقف التركي من العلاقة بتنيظمَي داعش وجبهة النصرة، وقضية اللاجئين، في فتح الطريق لمهرجانات حكومية تركية ما يضرّ بها ويستثير عليها حملات من اليمين المتطرف، لأن الباب العالي لا يرى قانوناً ومنطقاً إلا الذي يساعده على الاستغراب لعدم التعامل مع أولوياته كأولويات للآخرين.
لا يمكن سياسياً توصيف الغضب التركي وما رافقه من تعابير وتهديدات إلا بالجنون السياسي لدولة محبطة، تعيش الهزيمة والعزلة وبدلاً من استيعاب ما يحيط بسياساتها من تعقيدات والانكباب على مراجعة تتيح رسم سياسات تتناسب مع المتغيرات تتحوّل مصدراً للأزمات، وتنشر حولها الغضب والتوتر. وهذه بداية نهاية مأساوية للدول التي تظن أن حجمها يحميها، فقد جرّبت تركيا سابقاً ذلك مع روسيا وكانت النتيجة كارثية واضطرت لكسر أنفها والعودة إلى الاعتذار، لكن مشكلة حكم أردوغان أنه يريد الفوز بالاستفتاء من موقع الاستثارة للمشاعر التركية لدى الناخبين الذين يعيشون مثل رئيسهم وهم السلطنة وعنجهية العظمة، ويرضي غرورهم غضب الرئيس ويستنهضهم للتصويت له بصلاحيات سلطان. وهو بعد الاستفتاء سيعود عن العنجهية بعد أن يرسل سراً للحكومة الهولندية، أظنّ أن الأزمة والتوتر يفيداننا معاً في الانتخابات وما علينا إلا الفوز معاً، لنتصالح بعد الانتخابات.
أردوغان نوع من السياسيين يدرك كيفية التعامل مع لعبة القطيع في علاقة الزعيم والشارع، ومفتاحها دغدغة عصبية الخصوصية والعظمة، وعندها يمكن التقلّب بين الشيء وضده من دون حساب ومساءلة، ويصير الزعيم في صورة تحاكي الألوهية فوق التغيير وقوانينه ويخلق الله من الشبه أربعين.