د. رائد المصري: البناء
لا بدّ من إجراء جردة حساب وجوجلة ولو كان الحديث عنها مبكراً، حول سياسات الغرب والمستعمر الأميركي لبلادنا لناحية استخدام وكلائه المحليين والمصير المحتوم لهؤلاء الخدم المعاد إنتاجهم كلّ مرة يعيد النظام الرأسمالي الناهب الثروات نفسه، وتثبيت تموضعهم فيه.
لا نستطيع والحالة هذه إلاّ المرور بالإشارة للبلدان العربية وتقسيماتها وانقساماتها حول قضايا مصيرية تتعلّق بالوجود وبالهوية وبالكيان وبالمستقبل، في مجرى الصراع الدولي والصراع العربي الصهيوني ومشاريع الاستعمار الجديدة للمنطقة.
فبات ضرورياً الحديث عن أكثر من مجال وتوجّه عربي وموقف، بالنسبة للقضايا الشائكة والمطروحة. فالعرب هم عربان، قسم منهم ارتضى واتّخذ لنفسه مساراً وتحديات كبيرة في البناء والنمو ومقارعة العدوان والاستعمار الغربيين وعلى رأسهم «إسرائيل»، وقسم آخر عزل نفسه وتحيّد عن مجرى الصراعات الدائرة، وكوّن لنفسه ما يشبه التجمّعات المستقلة عن بقية البلدان العربية، نقصد بها هنا منظومة دول الخليج، السالكة خيارات مختلفة كلّياً عن خيارات البقية من العرب المنخرطين في قلب الصراع الدائر والذي كلّف إلى اليوم الكثير من الضحايا والشهداء والبناء السياسي والتنمية وغيرها، وها هي سوريا اليوم خير شاهد على ما نقول.
فهناك العرب الخليجيون الذين حقّقوا نمواً هائلاً وتطوراً ملحوظاً في سياق البناء الاقتصادي وتطوير شبكات الخدمات الاجتماعية والبنى التحتية، وكلّه بفضل الوفورات المالية المتأتية من النفط والغاز، والذين يعتبرون وبسبب الضعف في الشعور بالانتماء لهوية جامعة وعربية، أرادوا العمل وأخذ الصراع الى الوجهة التي أرادها المستعمر الغربي، وشكّلوا كانتونات ومحميّات لدولهم بقيت في مأمن عن أيّ أحداث وتداعيات أو هزّات في استقرار نظمها واقتصاداتها.
وهناك كذلك عرب هم وبحكم الجغرافيا السياسية معنيون بحقيقة الصراع وتجذّر الهويّة لديهم عبر التاريخ، وتأثّرهم بالأفكار الثورية والتحرّر الذي عاشوه وعايشوه منذ عام 1920 على الأقلّ، وبالتالي لم ييأسوا ولم يستسلموا، وما زالوا يشكّلون قلب الصراع وأداته الأولى في مواجهة المشروع الإمبريالي الغربي وربيبته «إسرائيل»، هذه الدول التي تتشكّل منها منظومات دول المشرق العربي وشمال إفريقيا.
هنا وجب الحديث والإشارة إلى أنّ نظم الحكم الخليجية المتشكّلة من إقطاعات سياسيّة لتنظيم شؤون السلطة والثروة، ولا تشكّل الدولة فيها إلاّ الإطار القانوني المؤسس القائم على الاحتكار والتبعية، حيث يتمّ احتكار الأفكار والمعتقدات والقناعات، ضمن منطق وحدود ما تراه هذه السلطات الحاكمة في دولها، وتصاغ الهوية الوطنية الخليجية في حدود ما يراه نظامها، فنجد أن لا وجود لهوية ولا وجود للشعب الخليجي من دون هذه الأسر الحاكمة.
أما التبعية فتعني إجبار الشعب على تبنّي فكر النظام وسياساته لتذوب الهوية الوطنية للإنسان الخليجي وشخصيته وتاريخه الثقافي والاجتماعي، وتنتهي في حواضن حكام هذه الاقطاعيات. فتمّ استبعاد التمثيل الشرعي، وفقد الانسان إنسانيته وحريته وأصبح تابعاً، وكلّما أراد وحاول التحرّر وتحقيق إنسانيته وذاته، دخّل في دائرة الكفر وأتّهم بضرب الوحدة الوطنية. وهنا ندرك أن شرعية هذه الأنظمة تشكّلت وبنيت على العصبية في النظام القبلي وعلى الدين الذي يعتبر شريكاً مضارباً في السلطة.
نظام الحكم في بلدان الخليج هو نظام عشائري، بقي منذ انحلال عقد الخلافة العثمانية يعيش وفق هذا الفكر، وكانت الدولة قادرة نسبياً على القيام بواجباتها ضمن دائرة العشائرية أو المساحة الضيقة الخاصة، وأن غالبية سكان الخليج يسيطر عليها النظام الأسري القبلي. ولكن التغيّرات الاجتماعية والتطورات العالمية أثّرت بشكلٍ سلبي في كفاءة النظام وقدراته الإدارية على أداء وظائفه الأساسية، فكان إغفال النظم الحاكمة عن الحقيقة التي يتّفق معها الجميع وهي أنّ المجتمعات تتغيّر، وأن أكثر المجتمعات تغيّراً هي المجتمعات الخليجية. وهنا وصلت الأسر الحاكمة الخليجية الى مرحلة العجز الكامل عن إدارة شؤون الدولة، بسبب ضعف النظام السياسي وتخلّفه وفشل مستمر في إدارة الحكم، مقارنة بحجم المسؤوليات وضخامة التحدّيات الداخلية والخارجية وتطوّر المجتمعات، إضافة إلى أن درجة استيعابها لهذه التغيّرات كانت ضعيفة جداً.
وبسبب انتشار الفساد السياسي وضعف هذه النّظم وعدم قدرتها على الاستيعاب لمجتمعاتها، وهو مجتمع شاب بطبيعته، لديه وعي لما تمرّ به البلاد من فساد وخراب طال كلّ جزء فيها. وكذلك قيام صراعات أقطاب الحكم من أبناء الأسر الحاكمة للبلاد، وما تمّ العمل عليه من شراء الأتباع والسيطرة على المؤسسات الإعلامية والاقتصادية والتحالف مع الجماعات الدينية والمذهبية والفئوية، كل هذه المسارات وضعت البلاد ونظمها في حالة من عدم الاستقرار اليوم، تضاف الى ذلك فضائح استغلالهم مناصبهم الوزارية والادارية، ومحاولة الإثراء غير المشروع والنهب المنظم لثروات البلاد كوسيلة ومنافسة لخصومهم من أبناء الأسرة.
هذا التآكل في النظام العشائري القبلي، مع تعالي الأصوات المطالبة ببناء وطن للجميع وتحوّل البلاد والدول الى ساحة صراع بين أقطاب الحكم، وكذلك تخلّف الأنظمة السياسية وأدائها الاقتصادي الريعي ، كذلك فقدان هذه الدول استقلالها السياسي وقرارها الحر، بوجود القواعد الأميركية والغربية، واستخدام الخليج كذلك كقواعد لضرب واحتلال الدول العربية والاسلامية، كلّ ذلك ساهم بشكل كبير في تغيير طريقة تفكير المجتمع، وبرهن على أنّ الأنظمة الحالية تقودهم الى نفقٍ مسدود. وهذا يؤدي إلى فقدان السند الرئيسي للنظام السياسي الخليجي ألا وهو النظام العشائري والقبلي.
كلّ العوامل السابقة جعلت أنظمة الحكم الوراثية الخليجية اليوم أمام تحدّيات كبيرة وخطيرة، وباتت عاجزة عن إدارة أمور العباد والبلاد وتتخبّط في قرارات مصيرية بما يؤثر على منظوماتها وكياناتها، وعلى تلبية احتياجات المجتمع المتطورة، حتى صار الضعف والوهن والشلل وعدم التكيّف مع المستجدات الدولية من أهم صفات هذه الأنظمة.
قديماً لم يكن تنازل المجتمعات العربية عن السيادة للأنظمة الحاكمة مجرّد هبة مجانية معطاة لهذه الأنظمة ولهذه الدول، إنّما لقناعات تاريخية بأن الأمراء والملوك والسلاطين لديهم القدرة على إشباع الحاجات المادية والرغبات في إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية بكفاءة وفاعلية، الى جانب تحقيق كرامة الوطن والمواطن وعزتهما، فقبل البعض منهم بهذه الطاعة ومنحوهم السيادة، أما في وقتنا الراهن وفي ظل الإخفاقات المستمرة للأنظمة الحاكمة الخليجية، تآكلت شرعيتها السياسية وتحوّلت شرعية براغماتية تستند على القوة وشراء الولاءات، وعقد التحالفات الطائفية والفئوية وطبعاً من خلال الدعم الخارجي.
وهو ما كان ليصير لو اتّخذت هذه الأنظمة مسار تثبيت هويتها القومية والوحدوية، وتفريغ هذه الوفورات المالية الهائلة وتوظيفها في البلاد العربية، التي تئنّ منذ عشرات السنين تحت خط الفقر، بدلاً من إيداعها في بنوك المستعمرين، وبالتالي يشكّل عامل اطمئنان وسند كبير لها عند الشدائد.