أنيسة عبود
في لحظة ما ودون تأمل طويل وجدت نفسها تقف عند عتبة فارقة.
ما قبلها ليس ما بعدها.. لحظة وستكون أماً وحيدة بلا سند وبلا أمنيات كثيرة..
هو الذي قال لها سأرحل.. ضاقت العتبات عليّ وضاقت الأبواب.. ليس أمامي إلا الضرب في المجهول.. فادعوا لي يا أمي.
أمسكت بمقبض بالباب الخشبي.. لم تشعره بأنها ستقع.. وأنها تمسك بالباب حتى تتماسك قليلاً وهو يضع كومة ثياب أمامها قائلاً (وزعيها على الفقراء.. ما عادت تلزمني.. فأنا لا استطيع حمل سنواتها الثقيلة) ظلت صامتة ونظراتها تجول في الثياب التي صغرت عليه وظهرت فيها حفر الزمن وخنادق الحرب وبقع الخراب.كادت تقول له ( لنحتفظ ببعض منها).
لكنه فهم صمتها بسرعة.. هي تعرف أنه يقرأ صوتها وصمتها ويعرف كيف ينقي الكلام من دموعها.. لذلك عاجلها ( يا ماما.. كرهت هذه الثياب التي أرتديها منذ سنوات طويلة و حتى الآن.تذكرني بالحرب والسنوات العجاف. لا أريد أن أجرها معي وكأني أجرّ أزمنة حزينة. أريد أن أرحل دون ذكريات حتى لا أستعيد وجعاً طال).
تمتمت بهدوء (معك حق.. لقد طال وجع السوريين.. وها أنا من هؤلاء السوريين الذين جاء دورهم ليقفوا على العتبات ويشموا رائحة ثياب الأحباب وكأنهم يثبتون لحظات لا يجوز أن ترحل.. لكنها سترحل ولن تلتفت للرجاء أو للبكاء فيرحل القلب وراءها وتمشي الروح بين طياتها).
اللحظات سريعة جداً والقادم قريب, ويصل بلمحة عين.. الثياب مكومة.. قمصان وكنزات.. وأحذية خدشها الوقت والانتظار. لكنها لم تستطع أن تقاوم رغبتها بلمس الثياب وتفتيشها علها تعثر على صورة للزمن الجميل الذي كان قبل الحرب على سورية.. الحرب هجرّت الفرح والأمل.. وقتلت الطموحات والأمنيات عند الناس.. هو مثل غيره , لم يكمل جامعته ولا استمر في طريق أحلامه.. سيسافر.. وسيقفل باب المدينة وراءه.. سيسافر باحثاً عن مدينة أخرى وباب آخر.. لعل الأبواب البعيدة لا تطلق صرير الألم والدم في وجهه الغريب.. لكن الغياب صعب والغربة مضيعة للأصل.. وما تملكه اليد تزهده النفس.. حالة الزهد هذه تنتشر بين رفاقه وجيله.. فإما الموت في الحرب وإما الموت في القهر.
الأفكار تتلاطم في رأس الأم بينما الأب يجلس في مقعده الكئيب.. يدون كتاباً قديماً لم يستطع أن يجد طابعة تطبعه.. كادت تصرخ (لماذا تكتب, ما جدوى الكتابة.؟).
وهمت أن تسأله (هل تعيد الكتابة زماننا القديم وأماننا وأبناءنا؟).
غصت بدموعها فابتعدت عن الجميع بينما كان ابنها يمضي باتجاه غرفته يبحث فيها عن بعض الأوراق والأشياء الخاصة.. ربما ليتلفها أو ليأخذها معه.. لا يريد أي رباط أو وثاق يشده إلى حنين موجع لا جدوى منه مع أن الأم تعرف أنه لن يقدر أن يقاوم لحظات الشوق ولا لحظات جنون الذاكرة.. لقد عانت من هذا العشق العنيف للبلد وللأصدقاء وكم تأوهت عندما كان نسيم الشوق يمر في خصلات أيامها.. تتمنى أن لا يعانيها ابنها ولا أن يجلس على سريره الغريب كل مساء ويرسل نظراته عبر خطوط الطول والعرض ويتنشق رائحة بيته البعيد وغرفته وهو على حافة أخرى من الأرض.
حين ابتعد.. وتأكدت أنه أغلق باب السور الخارجي.. هرعت إلى كومة الثياب.. راحت تبحث فيها وتشم رائحتها.. تأسفت أنه لم يترك عطره عليها.لقد غسلها وطواها وهذه عادته.. فهو مهووس بالنظافة والأناقة منذ طفولته.. لذلك راعت دائماً أن تشتري له الثياب المميزة والغالية.. وعندما نزلت الحرب بالبلد وجاع الناس صار مثله مثل غيره يشتري ثياباً أوربية – أي ثياب البالة – كان يتأفف.. غير أنها كانت تمتص غضبه وتقول (إنها الحرب اللعينة يا بني..).
كل هذه الحوارات استعادتها وهي تتناول قطع الثياب.. تشم رائحتها وتعيد طيها.. وعندما عثرت على بقايا عطره في سترته البنية حملتها ودخلت غرفته وراحت تبكي.. ثم ما إن هدأت حتى لبستها وخرجت بها إلى الصالون. سألها الأب ( ما هذه الجاكيت الجديدة ؟).
شهقت وضمت الجاكيت إلى جسدها وكأنها تضم ابنها المسافر لتمنعه من الرحيل.كان الباب يقرع.. وكانت الأم تقرع باب الزمن وتعاتبه (ليش يا زمن فعلت بنا هكذا ؟).
كانت لحظة.. وكان باب عريض ينفتح ويدخل منه زمن غريب ويخرج منه زمن آخر بينما الأم تتعثر بسنواتها وتزرع دموعها في المسافة بين البابين وبين الزمنين.وفي لحظة ما تحولت إلى شجرة تقف على الطريق وتمد أغصانها نحو الله لعل المطر يتساقط وتخضرّ أوراق الروح.سقطت غيمة فجأة في حضن الأم.. كان المطر يهطل وكان ابنها يركض في حقول المطر وهو يبتعد.