أنيسة عبود:الثورة
في عيد الأم هذا لم أصنع حلوى ولم أصفّ أصص الورد على الأدراج.
لم أجدد أغطية الوسائد ولم أغير ديكور الصالون.. فالأحباب غائبون ولن يأتوا صباحاً كعادتهم وهم مستعجلون يقرعون الباب ويملؤون المنزل بالضجة الجميلة.. هذا يوزع القبل وذاك يفتح شريط الهدايا والكل جائع وكأنهم إذا ما أكلوا من طعامي عادوا أطفالاً في حضني أمشط شعرهم وألبسهم ثياب العيد وآخذهم عند جدتهم يوم كان لهم جدة.
هاهي هواتفهم توقظني وتسابق المسافات وتركض أمام الشوق.. صحيح أن الصوت لا يكفي ولكنه يخفف قليلاً من تحجر المسافات في زمن تحجرت فيه القلوب والمشاعر لكثرة ما رأينا من دم ورؤوس مقطوعة وأمهات مفجوعات وآباء كسر ظهرهم غياب الأحباب.
فمتى يتغير قدرنا نحن السوريين؟ ومتى نستعيد أعيادنا؟ وهل يمكن لمن ألبسته الحرب ثياب الدم والانتقام والحقد والألم أن يخلع هذه الثياب ويعود إلى فرحه وتسامحه وأعياده البيضاء؟
هل يمكن لمن جرح أمه الكبرى وذبح أبناءها (أخوته) أن يعود إلى حضنها ويقول لها سامحيني يا أمي؟
هل سيعود باراً بها كما علمته الديانات وكما ربته السماوات بعد ست سنوات من التمزيق في جسدها المقدس؟
تسامح الأم.. وتعفو وتغفر.. وكلنا يعرف قصة الأم التي قتلها ابنها وأخذ قلبها لحبيبته.. حيث سار حاملاً القلب المكلوم باتجاه حبيبته كي يرضيها ولكن ما إن تعثر الولد وسقط على الأرض حتى صاح قلب الأم (يا الله ساعده)
وأمّنا الكبرى تستطيع أن تسامحنا.. وتقدر أن تغفر لنا.. فهل نقدر أن نسامح أنفسنا؟ ونعود كما كنا أبراراً نكفر عن ذنوبنا في حق أم أتت بنا إلى الحياة، أطعمتنا وكستنا وأورثتنا أعظم أبجدية وأعظم حضارة؟
يبدوأنه من الواجب علينا أن نستعيد بعض ذاكرتنا حول أمنا سورية التي أسأنا إليها ومرغنا كرامتها بالتراب ودمرنا حصونها وتاريخها وأتينا بالغرباء إلى عقر أسرارها.. فإذا كنا غير بارين بأمنا سورية فكيف نكون بارين بأمهاتنا اللواتي هنّ رمز وصورة لسورية الأم الكبرى.؟
أخبروني عن أم سورية غير مكلومة؟ فكم ستتحمل الأمهات من جراح وغياب الأبناء؟
وكم أعطاها رب العالمين من القدرة على التحمل والصبر؟
إنها الجبل الصابر الصامد الذي يخفي ألمه في حضرة الأولاد حتى يكونوا سعداء.. وهنا أتذكر أمي التي لم أر دموعها أبداً إلا حين مات أبي، لم تكن تطلب شيئاً ولا تشعر أبناءها بأنها تحتاج شيئاً، فهي مكتفية، مقتنعة، راضية، حتى عندما قطفت لها الورد البري والطيون وزهر – العيصلان – البنفسجي ..حضنتني وجعلتني أحس أني أقدم لها حرير القزّ ..إذ لم يكن في قريتي حلوى ولا متجر هدايا.. ولم يكن لدي سوى حقول القرية أركض فيها وأنقي الورد كي أقدمه لأمي.. كان منديلها الحرير يشعرني بالأمان.. وكان صوتها الهادئ يجعل الآمال كلها قابلة للتحقق.. وعندما كبرت وغادرت منزل أسرتي كنت أعود إلى أمي في لحظات الحزن والضعف والفرح.. فليس كالأم يحتضن أحزاننا ويفرح لأفراحنا.. لكن أمي غادرت منذ سنين.. وبقيت بلا أم أبحث لأجلها في المروج لأقدم لها الورد.. أو لأهرب إليها وأبثها مشاغلي ..فلوكانت أمي موجودة الآن لكنت أخبرتها عن سفر – قتيبة – وكنت حكيت لها عن الحرب ومآسيها.. وعن الذين استشهدوا والذين خطفوا.. وكنت سأخبرها عن الخونة والعملاء للغريب.. كانت ستبكي.. وربما سترفض أن تصدق أن أحداً من السوريين يخون أويدمر أويقتل.. لأنها عاشت أيام الاحتلال الفرنسي وشهدت ثورات التحرير وليس ثورات التدمير والذبح، ومع أن السنوات مرت كثيرة على غياب أمي إلا أني أقف أمام صورتها وأخاطبها، فأشعر أنها تسمعني.. وأدرك أنها تقف معي.. وكم رفعت صوتي عالياً وناديتها كما ينادي أبنائي فأسمعهم وهم في الغربة وأشعر بهم وأحس لحظات ضيقهم وحزنهم.. هكذا نحن الأمهات.. نرى أكثر من زرقاء اليمامة.. ونسمع لأبعد من قارّة.. وأوسع من بحر، خاصة في عيد الأم حيث كان لقاء الأم بأبنائها هو أكبر الأعياد.. غير أن الحرب غيرتنا وغيرت مواعيد العيد.. فهناك الذي هاجر والذي سافر وهناك الشهداء الذين يحضرون بأرواحهم ويعيدون أمهاتهم وبيوتهم.. يمرون كالنسيم العليل أوكحبات المطر.. ستبكي أمهات كثيرات في العيد.. لكنه عيد الأم.. فالسلام على الأمهات الصابرات.. السلام على الشهداء والسلام عليك يا سورية يا أمنا الكبرى.