من الطبيعي، حين ننخرط في مناقشة موضوع ما مثل موضوع الأمة، وحتى لا يكون الحوار “حوار طرشان”، أن نبدأ من نقطة محددة تتمثل في معرفة الدلالة اللغوية للكلمة، وهل هي واحدة أم متعددة. ومعرفة أن هذه الدلالة أو الدلالات هي التي ستمكننا من فهم الآيات الواردة في القرآن الكريم حول الأمة فهماً صحيحاً، ومن ثم تحديد خلفية المفاهيم التي يطرحها البعض كما لو كانت بديهيات دون أن يكون لها سند لغوي.
إن لكلمة الأمة في اللغة العربية دلالات متعددة، وهذه الدلالات مستمدة من القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين. وعليه، فإن منطق التعامل مع اللغة يفترض الوقوف عند الدلالة في كل حالة، وعدم تجاوزها الى دلالة أخرى افتراضية، أو الخضوع لأهوائنا الخاصة.
في (لسان العرب)، وتحت المصدر “أمم”، نجد المعاني الأساسية التالية التي تعنينا: الأمُّ القصْدُ، والأمّة الحالة، والإمّة والأمة: الشرعة والدين. وفي التنزيل العزيز [إنا وجدنا آباءنا على أمة]، قال اللحياني، وروي عن مجاهد وعمر بن عبد العزيز: على إمّة. قال الفراء [إنا وجدنا آباءنا على أُمّة]، وهي مثل السُنّة، وقرئ على إمّة، وهي الطريقة. يقال: ما أحسن إمّته. قال والإمّة أيضاً: النعيم والملك. والأمة والإمة: الدين. قال أبو إسحق في قوله تعالى [كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين]، أي كانوا على دين واحد. وقال بعضهم في معنى الآية: كان الناس فيما بين آدم ونوح كفاراً، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع بالجنة وينذرون من عصى بالنار. وقال آخرون: كان جميع من مع نوح في السفينة مؤمناً، ثم تفرقوا من بعد عن كفر، فبعث الله النبيّين. وقال آخرون: الناسُ كانوا كفاراً فبعث الله إبراهيم والنبيّين من بعده.
ونتابع مع “اللسان” حيث الأمة: الطريقة والدين. يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة. وقوله تعالى [كنتم خير أمة]، قال الأخفش: يريد أهل أمة أي خير أهل دين. والإمّة لغة في الأمة، وهي الطريقة والدين. والإمة: النعمة، والإمة: الهيئة، والإمة: الحال والشأن. وقال ابن الأعرابي: الإمّة غضارة العيش والنعمة. والإمة: العيش الرخيّ. والإمام: كل من ائتمّ به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين. والأمة: القرن من الناس. يقال: قد مضت أمم أي قرون. وأمة كل نبيّ: من أرسل إليهم من كافر ومؤمن. الليث: كل قوم نسبوا إلى نبي فأضيفوا إليه فهم أمته. وقيل أمة محمد كل من أرسل إليه ممن آمن به أو كفر. قال: وكل جيل من الناس هم أمة على حدة. وقال غيره كل جنس من الحيوان غير بني آدم هم أمة على حدة. والأمة: الجيل والجنس من كل حيّ. وكان إبراهيم عليه السلام أمة وحده. وكل من كان على دين الحق مخالفاً لسائر الأديان فهو أمة وحده. والأمة: الرجل الذي لا نظير له، ومنه قوله عز وجل [كان إبراهيم أمة قانتاً لله]، وقال أبو عبيدة: كان أمة أي إماماً. يقال: أممت إليه إذا قصدته، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد. ويروى عن النبي (صلعم) أنه قال: يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمة على حدة، وذلك أنه كان تبرّأ من أديان المشركين وآمن بالله قبل مبعث سيدنا محمد. وفي حديث قس بن ساعدة يبعث يوم القيامة أمة وحده. قال: الأمة الرجل المنفرد بدين. وقال ابن القطاع: الأمة الملك، والأمة أتباع الأنبياء، والأمة الرجل الجامع للخير، والأمة الأمم. وأمة الرجل: قومه. والأمة: الجماعة. وفي الحديث أن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، يريد أنهم بالصلح الذي وقع بينهم وبين المؤمنين كجماعة منهم كلمتهم وأيديهم واحدة. وأمة الله: خلقه.
وهكذا نكتشف من خلال هذه الدلالات اللغوية أن الأمة قد تكون رجلاً منفرداً وقد تكون البشر أجمعين. وما بين المعنيين معان ومعان، وما بين الدلالتين دلالات ودلالات. وإذا كانت الأمة في أحد معانيها تعني الدين والطريقة والسنة فإن تعبير “أمة الإسلام” أو المسلمين يمكن أن يفهم على أنه يعني ديانة أو طريقة أو سنة أو نهج الإسلام أو المسلمين. فإذا قيل بأنهم يقصدون البعد الاجتماعي بكلمة “الأمة” يكونون عندئذ قد التقوا مع من يرون في الأمة جماعة من البشر تشترك في خصائص معينة حيث أن من يشتركون في لغة واحدة أمة. ولكن قبل أن ندخل في محاكمات نظرية حول مفهوم الأمة على أساس اللغة، دعونا نتوقف عند دلالات كلمة “الأمة” في القرآن الكريم.
يقول د. حسين فوزي النجار: “فإن لم تنص الشريعة الإسلامية على إقامة دولة أو قيام سلطة، فقد نصت بصورة واضحة لا تقبل جدلاً على قيام “أمة إسلامية”. والأمة في اللفظ القرآني هي الحشد الكبير من الناس دونها الشعب والقوم والقبيلة”. وهنا نتساءل: أين جاء النص على قيام “أمة إسلامية” على نحو يتجاوز استنتاج الدلالة من كون الأمة هي الحشد الذي يجتمع على قصد؟ وأما القول بأن الأمة في اللفظ القرآني هي الحشد الكبير من الناس دونها الشعب والقوم والقبيلة، فقول يمثل معنى واحداً من معاني كلمة الأمة، ولا يمثل كافة هذه المعاني في القرآن، وهو ما سنوضحه من خلال الآيات التي يرد فيها ذكر الأمة.
يستوقفنا بدايه قوله عز وجل [وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون] (يونس 19).
ما يعنينا هنا ليس البحث في موضوع الاختلاف أو الخلاف وفحواه، وهل هو ديني أو غير ديني، وإنما القول بأن الناس – جميع الناس – كانوا في البداية أمة واحدة، أو بمعنى آخر أن كلمة “الأمة” كانت تتطابق مع كلمة “الناس”، أو أن الناس جميعاً كانوا على نهج واحد. وبالطبع، فإن هذا المفهوم العام والشامل الذي يطابق بين “الأمة” و”الناس” يجد تأكيده أيضاً في قوله عز وجل [وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون] (الأنعام 38)، فمفهوم الأمة هنا يتعلق بالنوع، ولا يتعلق بالقصد أو العقيدة، حيث يكون البشر جميعاً أمة. ويبدو أن الاختلاف في موضوع القصد والعقيدة إنما يتعلق بنوعين من المخلوقات هما: الإنس والجن. وهذا ما قد نستخلصه من قوله عز وجل [قيل ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها] (الأعراف 78)، وهذا يعني أن الجن أيضاً أمم، وإذا كان بعضهم قد أسلموا، كما ورد في سورة الجن، فهذا يعني أن هناك أمة مسلمة من الجن أيضاً.
لندع الجنّ مجتنين، ونبقى مع الإنس.
إن قوله سبحانه وتعالى [يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى] يعني منطقياً أن الناس كانوا في البداية عائلة واحدة، وما افترقوا وتمايزوا إلا بعد زمن تكاثروا خلاله وتفرقوا في الأرض.
يقول سبحانه وتعالى [كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلفوا فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم] (البقرة 213). ونحن نعرف أن الناس لم تعرف الكتابة إلا في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وفي موقعي سومر بالعراق ومصر وما بينهما (بلاد الشام)، ونعرف أيضاً أن نوحاً عليه السلام أرسل الى قومه قبل ذلك بزمن بعيد، ولم تكن الناس في ذلك الزمن قد عرفت الكتابة.
ومن المنطقي الافتراض أن قوم نوح كانوا قد شكلوا أول مجتمع يمكن أن يطلق عليه تسمية “قوم”، وهذا يعني أن احتمال كون البشر في ذلك الحين كانوا لا يزالون أمة واحدة، تمثلت في قوم نوح ومن في محيطهم، هو أمر ممكن . وهنا قد يبرز من يقول: ولكن كيف نفسّر قوله عز وجل [قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممّن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسّهم منا عذابٌ أليم] (هود 48)؟
نحن نعرف أن من نجوا مع نوح على السفينة هم أهله والذين آمنوا معه، وما آمن معه إلا قليل. ونعرف أن بين هؤلاء المؤمنين من هو جدّ بني إسرائيل [ذرية من حملنا مع نوح]، وبالتالي نستطيع أن نستنتج بأن النص هنا يدور حول أفراد هم مشاريع أمم مستقبلية بعضها ممّن نجوا معه على السفينة، وبعضها الآخر أمم أو مشاريع أمم لم يشملها الطوفان، وأن أول هذه الأمم بعد ذلك ستتمثل في قوم عاد.
عبد الرحمن غنيم
وفي القرآن الكريم ما يؤكد أن قوم نوح اعتبروا أمة. يقول عز وجل [كذبت قبلهم قوم نوح والأحزابُ من بعدهم وهمّت كل أمة برسولهم ليأخذوه وحاولوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب] (غافر 5).
إن الأمر المهم في هذا السياق هو الانتباه الى حقيقة أن الأمة الأولى في تاريخ البشر، ممثلة في قوم نوح، إنما وجدت على الجغرافيا العربية، وأن هذه الأمة كانت لها أيضاً ملامحها العربية. أما الجغرافيا فإن المعطيات تدلل على تواجدها في شرق ليبيا ولها امتدادها غرباً وشرقاً وجنوباً، وأن نوحاً عليه السلام ومن معه من الناجين انتقلوا الى الأرض المباركة في فلسطين، أي بلاد الشام. وأما ملامح الانتماء العربي فواضحة من أسماء معبوداتهم كما يرد ذكرها في قوله عز وجل [وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنَّ ودّاً ولا سُواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونسرا] (نوح 23).
إن صلة الوصل اللغوي والاجتماعي بين أمة الناس الواحدة تلك وبين العرب، بعد انصرام زمن طويل، تتضح من حقيقة أن ود كان إله القمر عند المعينيين في اليمن، وأن سواعاً كان وثناً للعرب مقره في ينبع عبدته هذيل، وقيل كان برُهاطٍ يحجون إليه، وكان على صورة امرأة، وأن يعوق صنم للعرب كان في أرحب عبدته همذان وخولان وجماعتهما وارتبط اسمه بالصنم يغوث، ويغوث معبود اشتق اسمه من الغوث كان مقامه بمذحج وجرش، وارتبط اسمه بالصنم يعوق. وهناك أيضاً من العرب في الجاهلية من عبدوا نسراً كما يرد في كتاب فضل بن عمار العماري (الدم المقدّس عند العرب).
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل جاءت أسماء هذه المعبودات الى جزيرة العرب مع من جاءوا مع نوح على السفينة من المؤمنين، وهو أمر يستبعده العقل؟ أم أنها كانت معتمدة في جزيرة العرب، أو في المنطقة المجاورة لها من شرق إفريقيا، كما عند قوم نوح في الجناح الغربي للوطن العربي، مما يفسر وجودها بينهم بعد زمن طويل، وما يدلل على أنهم كانوا ومنذ ذلك الزمن القديم عرباً من الناحية اللغوية؟! الاستنتاج الوحيد المنطقي أن قوم نوح، من الزاوية الثقافية، كانوا أوسع ممّن أغرقهم الطوفان، ولعل بعضهم كانوا في جزيرة العرب، وأن معبودات من لم يشملهم الطوفان ظلت قائمة لزمن طويل. وحتى لو افترضنا الصدفة، فإن وحدة اللغة وكونها عربية ليست صدفة.
إن هذه المعطيات تكفي لتدلنا على أن نشأة “الأمة العربية” بدأت منذ ثلاثين ألف سنة تقريباً، وأنها كانت الأمة الوحيدة المعبّرة عن اجتماع الناس في البداية، وأن جغرافية انتشار أصول هذه الأمة شملت مغارب الوطن العربي ومشارقه، وأنه من المرجح أن تكون الأمم الأخرى قد تفرّعت عن هذه الأمة، وتباعدت عنها لغوياً بحكم الانتشار الجغرافي. ولعل الدليل الأبرز على صحة هذه الاستنتاجات يتمثل في اللفظة المعبرة عن كلمة “الأمة”، وصيغة ورودها في اللغات الأخرى.
ترد الكلمة الدالة على الأمة لتكتب في الانجليزية والفرنسية والألمانية بصيغة nation، وتلفظ في هذه اللغات بصيغ “نيشن” و”ناسيون” و”ناسزيون”، على الترتيب. ويقول د. سليمان أبو غوش في كتابه (عشرة آلاف كلمة انجليزية من أصل عربي) أن كلمة nation الانجليزية، ومعناها: شعب، أمة، جمهور، جمع غفير، هي عين كلمة ناس بالعربية. وواضح أن هذه الدلالة تنطبق على اللغات السابقة، كما تنطبق على كلمة nazione الإيطالية، بمعنى الوطن أو الدولة، وعلى كلمة nacion الإسبانية، مثلما تنطبق على كلمة “ناسن” الروسية بنفس المعنى. فكأن اللغات الهندو – أوروبية تتفق على تسمية الأمة بكلمة “ناس” سواء منوّنة بالرفع “ناسٌ” أو بالكسر “ناسٍ”. وأما في اللغة الفارسية، فإن هذه الكلمة ترد بالصيغ التالية: ملت “ملة بالعربية” – أمت “أمة بالعربية” – قوم – طايفة “طائفة بالعربية” – خلق – كشور.
ومن الطريف هنا أن نلاحظ العلاقة اللغوية بين كلمة nation الانجليزية وكلمة النشأة بالعربية تقابلها كلمة ناشيتا nasceta في الإيطالية، وكذلك بين كلمة نيشان الفارسية بمعنى: علامة/هدف، أي قصد، وكلمة “نيشن” في العامية السورية بمعنى هدّف أو سدّد النظر، وأن نلاحظ العلاقة بين هذه المعاني وبين مفهوم القصد للمصدر “أمم” في اللغة العربية.
والواقع أن التبادل أو التطابق بين كلمتي “أمة” و”ناس” أو “أناس” يتكرر في مواقع عديدة في القرآن الكريم. وهذا الاستخدام اللغوي للفظتين ليس بلا دلالة، ذلك أن الأمة في الأصل حشد من الناس، ولكن هذا الحشد يجمعه قصد أو تجمعه صفة، فيصير عندئذ أمة، فالأمة هي الحشد الذي يجمعه قصد أو تجمعه صفة.
يقول سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام [ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون] (القصص 23)، فالأمة هنا حشد أو لفيف من الناس أمّوا ماء مدين بغرض السقاية، وهذه هي حدود الدلالة. ولنلاحظ أنه قال [أمة من الناس] حتى لا يختلط المعنى، حيث أن الأمة قد تكون حشداً من كائنات أخرى تتجمع حول الماء. ويقول عز وجل [ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون* وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم] (الأعراف 159 و160). وهنا نلاحظ أن أمة الذين [يهدون بالحق] هي جزءٌ من قوم موسى، أي أقلّ من قوم، وأن القوم جرى تقطيعهم إلى أسباط أمم، أي أن كل سبط منها عُدّ أمة، سواءً بدلالة الحشد، أو بدلالة القصد، أو بدلالة انتماء قبلي معين، وأن هذه الأسباط صنفت عند الاستسقاء بأنها “أناس”، فهل يجوز لنا أن نفهم من هذا التقطيع إلى أسباط أمم أنه كان مرسوماً لكل سبط أمة أن يصير دولة، ويبقى منعزلاً عن الأسباط الأخرى ودولها؟ وهل هذا هو المفهوم الذي نخلص إليه من قوله عز وجل عن بني إسرائيل أو اليهود [وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون] (الأعراف 168)؟ أنفهم الأمم هنا بمعنى الانفراد، أم بمعنى الحشد، أم بمعنى القصد؟!
من الواضح تماماً، في كل الحالات السابقة، أن كلمة “أمة” تعني جمعاً أو لفيفاً. وهذا المعنى يتضمنه أيضاً قوله عز وجل [وممّن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون] (الأعراف 18)، فالأمة هنا بمعنى جماعة، وهذه الجماعة قد تكون مجتمعة وقد تكون متفرقة، أي أنها لا تشكل مجتمعاً بالضرورة، لكن ما يجمع بينها هو القصد أو النمط السلوكي، حتى وإن كانت موزعة على كل أمم الأرض. ويمكن استخلاص هذه الدلالة أيضاً من قوله عز وجل [ولتكن منكم أمةٌ يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون] (آل عمران 104)، فالأمة هنا – كما هو واضح – بمعنى فئة أو جماعة، وليس مجموع الأمة، حيث أن الخطاب موجه إلى المؤمنين ككل، فإذا اعتبرنا المسلمين جميعاً أمة كان هؤلاء بمثابة الأمة داخل الأمة، كما أن المسلمين أنفسهم هم بمثابة الأمة داخل أمة المؤمنين.
وتتأكد دلالة الأمة في القرآن بمعنى الجماعة الفرعية، أو الفئة، في قوله عز وجل عن بني إسرائيل أو اليهود [وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة الى ربكم ولعلهم يتقون] (الأعراف 164)، فالأمة هنا هي جماعة فرعية لها توجه ديني معين أو قصد، ووصفت بالأمة للدلالة على الكثرة العددية. ويتأكد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى [ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمةٌ يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون] (آل عمران 113)، فالأمة هنا أيضاً بمعنى جماعة فرعية. وتتأكد دلالة الجماعة الفرعية، أو الفئة، لكلمة الأمة في قوله عز وجل [ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون] (المائدة 66)، فالأمة المقتصدة هنا هي فئة من الجماعة أو الأمة أو القوم بالمعنى الشامل، ما يميزها عن الآخرين أنها مقتصدة.
وهكذا يتضح لنا بشكل جلي أن مفهوم “الأمة” في القرآن هو مفهوم مرن متعدد يبدأ من الفرد المتفرد الذي يعتبر أمة في ذاته ليصل الى اعتبار البشر جميعاً أمة. ومع ذلك، فإن هناك حالة جرى فيها النص في القرآن الكريم على الأمة الواحدة بدلالة اجتماعية تتفق مع المدلول المعاصر لكلمة الأمة، وهذا هو موضوع بحثنا التالي.