سورية و”البعث”

الرفيق د. جمال علي غانم:البعث

مع إطلالة الذكرى السبعين لميلاده، يستمر “”البعث”” في حمل الأمانة التاريخية، سيما في المرحلة الراهنة من المشروع الصهيو/وهابي الأمريكي وقواه الظلامية التكفيرية، والذي عمل ولا يزال على القضاء على الحلم القومي العربي الذي سكن قلوب وعقول شرفاء العرب ومناضليهم، والذي شكل “”البعث””، رسالة وحزباً وقضية ومشروعاً، رافعته الاجتماعية الايديولوجية العقائدية الأساس.
إن تاريخ “البعث”، ومنذ مراحله الجنينية الأولى، كان رحلة نضال مستمر وعمل متواصل على جبهات عدة، منها ما كان على جبهة محاربة قوى الاستعمار والصهيونية ومشاريعها وسياساتها، ومنها ما كان على جبهة محاربة القوى الرجعية العربية والمحلية التي لم يتغير دورها ووظيفتها كأدوات رخيصة في يد قوى العدوان والعنصرية العالمية، وكذلك النضال على جبهة البناء والتنمية والسيادة الوطنية، سيما منذ وصوله إلى قيادة الدولة والمجتمع في سورية.
ولعلنا لا نبالغ عند القول إن قيادة “البعث” للدولة السورية حققت الكثير من الانجازات التي غيرت جذرياً بنية المجتمع السوري وواقعه في مجالات الحياة كافة، فسورية ما قبل قيادة “البعث” غيرها ما بعدها، الأمر الذي غدا واضحاً وجلياً جداً مع قيام الحركة التصحيحية التي قادها المؤسس حافظ الأسد، والذي أصبحت سورية في عهده جذر معادلات الشرق العربي وممره الإجباري، والذي لا يمكن تجاهله وتجاوزه والقفز عنه.
لقد قطعت سورية أشواطاً كبيرة على طريق التقدم والتنمية، فأصبح التعليم متاحاً لكل أبناء الوطن، كما تحولت سورية من دولة مستوردة للغذاء والدواء والوقود إلى دولة مصدرة إلى عشرات الدول، وصولاً إلى تعزيز قدراتها الدفاعية واستعداداتها العسكرية لتحرير الأرض من الصهاينة المحتلين، ما تحقق إلى حد كبير في الإنجاز القومي في حرب تشرين التحريرية 1973، والتي أضحت درساً في معظم أكاديميات العالم العسكرية بخططها ومراحل قيادتها وسير معركتها محطمة مقولة الصهاينة في أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”.
لقد شكلت عقيدة “البعث” وأهدافه المرجعية الأساس لمواقف وسياسات الدولة السورية في علاقاتها مع دول العالم، بشرقه وغربه، سيما في إطار الصراع العربي الصهيوني الذي شكلت القضية الفلسطينية بوصلته الأم، كما في بنائها الداخلي ثقافياً وسياسياً واقتصاديا واجتماعياً، واضعة نصب عينيها بناء دولة قوية متطورة مدركة أن معركة الوجود مع الصهاينة تتطلب تلبية قدرات جيشها وجاهزيته الدائمة لاستكمال تحرير الأرض والعمل لتحقيق التوازن الاستراتيجي الشامل سيما بعد خروج العراق ومصر وبقية العرب من معادلة الصراع الوجودي إلى أجل غير مسمى.
لقد حققت سورية في ظل “البعث” تطوراً شاملاً ونوعياً، ولعل من جملة الانجازات الهامة تلك قيام المؤسسة الحزبية الوطنية للتشارك والمشاركة في القرار الوطني، والتي أتاحت للقوى الوطنية والتقدمية السورية أن تقوم بدورها المطلوب في مصلحة الشعب والوطن، وذلك في إطار الجبهة الوطنية التقدمية، والتوجه نحو لا مركزية الإدارة من خلال صيغة الإدارة المحلية. كما يعتبر إنجاز الدستور الدائم وإقراره من خلال استفتاء شعبي مباشر في آذار 1973 خطوة أساسية في تعميق المسار الديمقراطي التشاركي للشعب وقواه الوطنية الفاعلة في بناء سورية المنيعة المتطورة، والذي أعطاها وجهاً حضارياً فاعلاً متفاعلاً مع نفسه وشعبه من جهة ومع ضرورات وحاجات ومتغيرات العالم من جهة ثانية.
لقد كانت مسيرة البناء والتطوير مليئة بالصعوبات والمشقات والتحديات والمؤامرات، ما لعب دوره في إبطاء عجلة النمو هنا أو التغيير هناك أو التقصير في هذا المجال أو التعثر في مجال آخر، إضافة إلى وجود بعض المسيئين والفاسدين الذين لم ينالوا ما يستحقونه من عقاب، ما ترك المجال لبعض الاختراقات التي سهلت لقوى العدوان وامتداداتها الداخلية فرصة الانقضاض على الدولة محاولة سرقة قرارها الوطني، الأمر الذي كان جلياً في تحرك الظلاميين من الإخوان المسلمين ما بين الأعوام 1975-1982، والذي باء بالفشل، لتعود المحاولة مرة ثانية وبشكل أكثر إجراماً وقتلاً وتدميراً تحت عناوين الحرية والإصلاح، مرتدية لباساً دينياً ظلامياً تكفيرياً إرهابياً انطلاقاً وتوسعاً على امتداد الجغرافية السورية، منذ مطلع العام 2011، حيث تتعرض سورية لحرب عدوانية ظالمة لم يشهد العالم مثيلاً لها في الإجرام والتدمير، وبتدخل مباشر من غالبية الدول العربية والإقليمية والغربية، للوصول إلى هدف تغيير وجه سورية ودورها وموقعها الحضاري والإنساني والوطني المقاوم، وهو ما عجزوا وسيعجزون عن تحقيقه بفضل صمود الدولة السورية بمؤسساتها كافة، سيما منها مؤسسة الجيش العربي السوري العقائدي العظيم، وكذلك شرفاء الشعب السوري وقواه الوطنية الذين صمدوا وضحوا وقدموا الشهداء، والقيادة الحكيمة والشجاعة للسيد الرئيس بشار حافظ الأسد، ما شكل ثلاثية إعجازية أذهلت العالم بصمودها، لنصل للعام 2017 حيث تلوح معالم الانتصار واضحة بينة فبدأ العالم يكتب تاريخاً جديداً عنوانه (سورية غيرت العالم ولم تتغير).  ولعل السؤال المشروع اليوم: ترى لو كانت سورية دون حزب “البعث” ودون دوره القيادي في الدولة والمجتمع، هل كانت ستتعرض لما تعرضت له من مؤامرات واعتداءات؟ الجواب بالتأكيد: نعم، لطالما كان هناك من يقود سورية بأمانة وطنية وقومية وروح تحررية سيادية وبعد أخلاقي إنساني، فكيف إذا اجتمع ذلك كله بحزب “البعث” العربي الاشتراكي عقيدة وأهدافاً ورسالة ومشروعاً وقيادة؟
لقد شكك الكثيرون جداً داخل الوطن وخارجه بدور “البعث”، وما حققه في سورية ولسورية، وما حققه للعرب وللعروبة، وكان بعض هؤلاء ممن يحملون – هكذا يدعون – فكراً وطنياً وقومياً، حتى وصل الأمر عندهم لينكروا دور الحزب في تطور سورية ونموها وصمودها ووطنيتها، فلم يروا سوى أن “البعث” لم يجلب غير الدمار والخراب والسوء والفوضى والفساد. وبجواب بسيط مختصر، ترى لو أن ذلك صحيح، لماذا كان العدوان على سورية في الماضي وإلى اليوم وحتى اللحظة الراهنة. إن القصور السياسي والغباء والحقد والابتعاد عن الروح الموضوعية في فهم حقيقة الواقع وتحليله هو ما يوصل إلى مثل تلك الاستنتاجات المريضة واللا وطنية.
لاشك بأن مسيرة نضال وتطوير وانجازات من جهة، واعتداءات ومؤامرات وحصارات من جهة أخرى، لا بد أن تترك إمكانية للسلبيات والتقصير والإساءات بحق الوطن والمواطن، ولكن ليس ليصيب البعض العمى والحقد بحيث لا يرون غيرها، فالمنطق والعقل والوطنية يعني أن نرى الصورة بشكلها وواقعها الشامل بعيداً عن الأحقاد والعدوانية فـ “البعثـ” يون قبل غيرهم يقولون ويتحدثون ويشيرون دائماً إلى مواطن الضعف والخلل والفساد، وبلغة وطنية نقدية قل أن نجد مثيلاً لها عند أي قوى سياسية أو شخصية سورية تختلف معنا، أو تخالفنا الموقف والرأي، وهو الحد الأدنى من الواقعية السياسية التي يمكن أن يمارس الإنسان من خلالها حريته في التعبير والنقد.
إن الهدف الأساس اليوم، وفي ظل الحرب العدوانية التي تتعرض لها، كان ولا يزال وقف نزيف الدم السوري الطاهر بنفس العزم والقوة والتصميم على دحر الإرهاب والقضاء على آخر إرهابي فوق تراب سورية، لذلك كانت الدولة السورية تتجاوب مع المبادرات جميعها، ليس من موقع ضعف أو تراجع بل من موقع القوة والحرص على استعادة عافيتها ووحدتها.. كل ذلك يؤكد جدية الدولة السورية في فتح الأبواب جميعها للوصول إلى إنهاء الحرب وانجاز المصالحة الوطنية الكبرى، ما غدا واضحاً في قبول الحوار والتفاوض حتى مع العصابات الإرهابية طالما تقبل بالحوار وإلقاء السلاح.
لقد خاضت سورية الدولة والشعب والجيش معاركها جميعاً في ظل قيادة حزب “البعث” العربي الاشتراكي، وليس المقصود فقط المعارك العسكرية بل المعارك الاقتصادية والتنموية والسياسية، بروح عالية من المسؤولية الوطنية والقومية والأمانة على قضايا الأمة وجماهيرها، فـ “البعث” هو مشروع الأجيال القابل للحياة، وهو الرافعة الأقوى والأهم في حياتنا لدحر مشاريع العدوان والإرهاب والصهيونية وصناعة الغد والمستقبل المشرق، ومن لا يرى تلك الحقائق لابد محكوم بالثأرية والحقد والعمى السياسي والأمية الوطنية والقومية.

اخبار الاتحاد